أساسات اقتصادية للكونية

07 ديسمبر 2022
07 ديسمبر 2022

الكونيـة والخصوصية مفهومان رائجان ومتداولان على نحو أفقي عابر للميادين والتخصصات. نصادفهما في الخطاب السياسي؛ في التحليل الاقتصادي؛ في الدراسات السوسيولوجية للمجتمعات ومنظومات القيم؛ وفي الدراسات التربوية؛ كما في حقل التحليل الثقافي وسوى هذه من الميادين التي يسعِفها المفهومان لمقاربة إشكالياتها. ومرد هذا الاتساع في نطاق تداولهما إلى المتغير الكبير الذي حمله العالم المعاصر؛ منذ نهايات القرن الثامن عشر، متمثِلا في بداية نهاية عصر الحدود القومية المغلقة على نفسها، ومعها بداية الشروع في فتح فضاءات أوسع لرؤوس الأموال والمصالح والجيوش، في امتدادِ حلم بالكونية كان قد خامر كثيرين في عهود مختلفة من التاريخ من أنبياء، ومفكرين فلاسفة، وقادة حربيين، وملوك وأباطرة...إلخ.

إذا كان من فاعل وضع حجر الأساس لنظام الكونية في العالم الحديث، وأصبح مع الزمن رافعته، فهو النظام الرأسمالي للإنتاج الذي انطلق من غرب أوروبا، ابتداء، ثم تعمم في مجمل أوروبا في القرنين 18 و19، قبل أن يتعمم - تدريجا - في العالم. قانون الكونية فريد في آليته، على ما أثبتت ذلك تجربة الرأسمالية في مهدها الأوروبي. لم تبدأ الرأسمالية في أوروبا كلِها ولا كانت بلدانها جميعها من مراكزها. بدأت في بريطانيا، ومنها انتقلت إلى فرنسا وألمانيا وإيطاليا بطريقة الزحف التدريجي. إذا كانت بريطانيا بلغتها بتطور ذاتي، فإن غيرها استعارها ولم يصِل إليها بقواه الذاتية. هكذا حصل، أيضا، في ثلاثة من أضخم الفتوحاتِ الحضارية التي صنعتها أوروبا الحديثة وصنعت - هي - أوروبا الحديثة: النهضة، الإصلاح الديني، الحداثة: بدأتِ النهضة حركة ثقافية وفنية في إيطاليا، لكنها سرعان ما تعممت في مجمل أوروبا من دون أن تكون المجتمعات التي استلهمتها قد شاركت في إنتاجها ابتداء. وبدأ الإصلاح الديني في ألمانيا، لكنه ما لبث أن عم معظم أوروبا في بحر عقود من الزمن. أما الحداثة - وقد ارتبطت بالغرب جملة - فهي لم تكن، على التحقيق، سوى ثمرة ثلاثة مراكز ثقافية وفكرية، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، هي: بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا قبل أن تصبح ظاهرة تعم أوروبا برمتها.

أصبحت هذه الظواهر الأربع (النهضة، الإصلاح الديني، الرأسمالية، الحداثة) أوروبية على الرغم من أن مراكزها التي نشأت فيها جميعها لم تتعد الأربعة مراكز. ومع ذلك، فإن لكونيـتها - على الأقل في المجال الأوروبي - أسبابا بررتها، ومنها تشابه المعطيات التاريخية- الاجتماعية (الاقتصادية والثقافية والسياسية والدينية) في مجال سيطر فيه الموروث اليوناني- الروماني، والقيم المسيحية، والإمبراطورية الرومانية، والكنيسة، والإقطاع... على نحو قارب التجانس. ومنها أن المجتمعات التي أنتجت تلك الظواهر «الكونية» استفادت من مواد ومعطيات من خارج حدودها بحيث لم تكن كلها محلية. ثم منها أن المجتمعات غير المنتِجة، التي استقبلت تلك الثورات ووطنتها فيها، كانت مهيأة - سلفا - لتلقيها وقبولها، ولم تفرض عليها بالقوة والإكراه. هذه - وغيرها كثير- أسباب سوغت لتلك الكونية ووفرت لها القدر الكافي من شروط الأمكنة Possibilisation، من غير أن نتجاهل حقيقة أخرى رديفا هي أن البلدان المستهلكة لتلك المنتوجات الكبرى الأربعة سرعان ما أصبحت، خلال عقود يسيرة، مراكز منتِجة لها ومشارِكة في صناعة كونيـتها على الصعيد العالمي.

فاعل ثان من صناع الفكرة الكونية اقترن - هو نفسه - بالرأسمالية وكان من ثمراتها هو الاستعمار؛ هذه الظاهرة الني أنجبها نظام الإنتاج الجديد الذي اقتضى تطوره وبقاؤه - في جملة ما اقتضاه - سيطرة على مصادر المواد الخام (من المعادن) التي تقع في «ما وراء البحار» (= بلدان الجنوب)، واستقداما لأيد عاملة رخيصة، ثم البحث عن أسواق للسِلع والمنتوجات. هكذا أتى الزحف الاستعماري الأوروبي على العالم يحطم الحدود القومية، ويجرِب إدماجا للمستعمرات في المراكز وربطا لها بحاجيات تلك المراكز، مع سعي حثيث في تقويض النـظمِ الاجتماعية والثقافية المحلية لتلك المستعمرات كي يسهـل ابتلاعها. ومع أن الفكرة الإمبراطورية سابقة في الوجود لظاهرة الاستعمار، إلا أنها ستشهد على أعلى أشكال اندفاعتها في سياق حركة الاستعمار؛ على ما تظهِرنا على ذلك التجربتان الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. غير أن أظهر ما تحققت كونيـته مع الاستعمار هي رأسملة العالم؛ الرسملة المحمولة على صهوة الغزو العسكري الأوروبي للعالم، والمطبقة من طريق إدارات الاحتلال.

وما اختلفتِ الحال حين جلتِ الجيوش الاستعمارية عن الأغلب الأعم من البلدان المستعمرة في القارات الثلاث؛ ظل العالم المستعمر مشدودا، بألفِ وشيجة، إلى مستعمِرِه القديم: بالتبعية الاقتصادية التي تولدت من ربط بنى الرأسماليات الطرفية برأسمالية المركز؛ وبالتبعية السياسية التي شدت النخب الحاكمة في الدول المستقلة وسياساتها المتبعة إلى النخب السياسية في الغرب (حيث في جامعاته تكونت نخب المستعمرات)؛ ثم بالتبعية الثقافية واللغوية التي جعلت عالم الغرب محجا وحيدا أمام نخب البلدان التابعة. هكذا ضمِنتِ التبعية سياسات نظام جديد - بعد الاستعمار- لا يتوسل أدوات العنف العسكري للإخضاع، بل أدوات الإخضاع الاقتصادي هو نظام الإمپريالية، أو ما عرِف باسم الاستعمار الجديد.

لكن المحطة الاقتصادية الثالثة للكونية جاوزت ما قبلها في الكثافةِ والمديات واتساعِ النطاق، وذهبت بعملية الكـوننة إلى الأبعد. إنها العولمة؛ المرحلة الأعلى في سيرورة الإخضاع والهيمنة والتوحيد القسري للعالم تحت سطوة المراكز العولمية الكبرى وسلطانها. وفي امتداد هذه العولمة - منظورا إليها بحسبانها اللحظة العليا في تطور النظام الرأسمالي - استـثمِرت معطيات الثورتين التكنولوجيتين الثالثة والرابعة جميعها، الأمر الذي صار معه فعل الكونية العولمية ممكنا ويسير التحقـق.

من البين، إذن، أن قراءة دقيقة لتاريخ فكرة الكونية في الوعي الحديث والمعاصر، وفي سياسات الدول الكبرى، لا تستقيم إلا متى نظِر إليها في اتصالها بالمنعطفات الاقتصادية الكبرى في هذا التاريخ، والآثار التي رتبتها تلك المنعطفات على مسار مشروع الكونية ذاك، حتى لأنـه قد يصِح القول إن تاريخ فكرة الكونية الحديث هو عينه تاريخ الاقتصاد الحديث؛ في انتقالاته النوعية الهائلة من طـور لطـور.