أحداث بغداد وطرابلس .. قواسم مشتركة

06 سبتمبر 2022
06 سبتمبر 2022

الاشتباكات التي اندلعت في العاصمة الليبية طرابلس في 26 أغسطس الماضي واتسع نطاقها وتحولت إلى حرب حقيقية استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، ثم ما لبثت أن انتهت فجأة يوم الأحد 28 أغسطس أثارت الكثير من التساؤلات حول أسبابها وما يمكن أن يترتب عليها، خاصة في ضوء التحركات التي صاحبت تلك الاشتباكات وأعقبتها أيضًا.

وما أن هدأت اشتباكات طرابلس، حتى اندلعت مواجهات مسلحة في المنطقة الخضراء بالعاصمة العراقية بغداد، بين أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر وبين عناصر القوات الأمنية، خاصة بعد أن تعرضت المنطقة الخضراء إلى قصف صاروخي من خارجها، وقد انتهت الاشتباكات وانسحب أنصار الصدر وعادت الأوضاع إلى الهدوء وألغيت حالة حظر التجول خلال ساعة واحدة من رسالته إليهم.

وفي ظل ما يجمع بين العراق وليبيا من قواسم مشتركة على مستويات عديدة، فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: أن أهم القواسم المشتركة بين العراق وليبيا، ليس جديدا في الواقع، إذ إنه يعود إلى أكثر من عقد من الزمن من ناحية، فضلًا عن أنه يمتد ليشمل دولا عربية أخرى تعيش على مدى السنوات الأخيرة حالة من الاحتراب الداخلي والحرب الأهلية، على خلفية تدخلات خارجية، إقليمية ودولية في شؤونها الداخلية من ناحية ثانية.

وبدون الرجوع إلى الوراء، أو الدخول في تفاصيل باتت معروفة، فإن إغراء التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، الأضعف عادة، والرغبة في توسيع نطاق النفوذ الإقليمي لهذا الطرف أو ذاك، أو توسيع نطاق المصالح الخاصة له، ومحاولة الاحتفاظ بأوراق ضغط أو تأثير يمكنه استخدامها لصالحه في قضايا أخرى، يتم عادة بدون اعتبار لمصالح الدول المتضررة والتي تدفع هي وشعوبها ثمن التجاوز عليها وانتهاك حقوقها ومصالحها الوطنية.

وإذا كانت عمليات التدخل في الشؤون الداخلية لدول عربية قد حولتها على مدى السنوات الأخيرة إلى دول فاشلة، فإن المعضلة التي ظهرت بوضوح هي أن القوى المتدخلة تلك، حاولت وتحاول بكل السبل إجهاض أي محاولات تقوم بها قوى داخلية أخرى في الدول المتضررة للخروج من إسار التبعية، ووضع حد للتدخل الخارجي في شؤونها ومحاولة استعادة استقلالية قرارها بشكل أو بآخر.

وما حدث ويحدث في العراق وليبيا وسوريا ولبنان وغيرها يؤكد ذلك إلى حد بعيد، بل إن الاشتباكات الأخيرة، في اندلاعها فجأة وانتهائها فجأة يشير إلى ذلك بوضوح، على أن الحقيقة التاريخية في هذه المنطقة وخارجها أكدت دوما أن الشعوب قادرة في النهاية على حماية مصالحها وعلى هزيمة عملاء الخارج، أيا كانت تسمياتهم أو شعاراتهم، وأن محاولات التدخل الخارجي مآلها الانتهاء وبتضحيات ضرورية في النهاية، ويظل ذلك قاسما مشتركًا أيضًا بين الدول الشقيقة المتضررة جميعها ودون استثناء.

ثانيا: إنه إذا كانت الرغبة في استعادة استقلالية السياسة العراقية، والحيلولة دون استخدام العراق كمنصة تصفية الحسابات بين أطراف إقليمية مختلفة، ومنع إدخاله في حسابات لا صالح له فيها، هي محور الخلافات بين التيار الصدري وقوى عراقية أخرى، فإن هي ذاتها تقريبا محور الخلافات بين حكومة عبدالحميد الدبيبة في طرابلس وحكومة فتحي باشاغا التي كلّفها مجلس النواب الليبي في مارس الماضي والتي لم تستطع ممارسة مهامها بسبب رفض الدبيبة تسليم السلطة لها، وقد أدى تعارض المصالح وتقاطعها بين القوى الإقليمية والدولية إلى انسداد المسار السياسي للحل في العراق وليبيا كنموذجين، وإلى استفحال دور الميليشيات والمرتزقة، ومن ثم حدوث وتكرار المواجهات المسلحة وما تسببه من خسائر جمة لحاضر ومستقبل الشعوب والدول المتضررة.

إن الاشتباكات الأخيرة تكتسب أهميتها وخطورتها من جانبين أساسيين، أولهما: إن عناصر مؤيدة للدبيبة أكدت أن عملية طرابلس كانت «عملية أمنية لوقف اختراق أمني تم رصده» ويفسر لك حالة الاصطفاف السريعة والتصعيد واستخدام الأسلحة الثقيلة والمتوسطة من جانب الميليشيات التابعة للدبيبة بوجه خاص.

أما الجانب الثاني فإنه تمثل في أن بداية الاشتباكات صاحبها حديث عن محاولات قوات تابعة لفتحي باشاغا دخول طرابلس، وبالفعل تحرك أسامة الجويلي بقواته على طريق المطار في اتجاه طرابلس وأن كتيبة أخرى تابعة لباشاغا اتجهت بالفعل إلى العاصمة لدخولها بدعوى حماية المدنيين.

ومع أن هذا التحرك كان يحاكي محاولة حفتر دخول طرابلس عام 2020، إلا أنه من المثير أن ذلك توقف فجأة، فقد عادت كتيبة باشاغا أدراجها، ولم تكمل طريقها، كما انسحبت قوات الجويلي من طريق المطار، والنتيجة أن ميليشيات الدبيبة أكدت سيطرتها في طرابلس. وتجدر الإشارة إلى أن أسامة الجويلي أكد أن طائرات مسيرة (تركية بالطبع) قصفت القوات التابعة لباشاغا بـ18 صاروخًا لتمنعها من التقدم نحو العاصمة، كما تردد أن المستشارين العسكريين الأتراك تعاونوا مع قوات الدبيبة برغم أن أنقرة أبلغت القاهرة أنها لم تتدخل في العمليات التي انتهت بسرعة، وعلى ذلك فقد تمت حماية طرابلس ومنع قوات تابعة لباشاغا من دخولها وتأمين حكومة الدبيبة فيها بشكل أكبر.

ولعل مما له دلالة مهمة إنه في حين قام الدبيبة بزيارة إسطنبول بعد الاشتباكات والتقى مع وزيري الخارجية والدفاع التركيين ورئيس المخابرات، كما التقى مع الرئيس أردوغان، فإن باشاغا زار تركيا في الوقت نفسه بدعوة منها حيث التقى مع المسؤولين الأتراك الذين التقاهم الدبيبة وكذلك مع الرئيس أردوغان لبحث التطورات في ليبيا، وقد أكد الدبيبة دعم تركيا له وتأييدها لخارطة طريق يسعى للتوصل إليها. وتلك التحركات لا تنفصل بالطبع عن اشتباكات الأيام الثلاثة.

وتجدر الإشارة إلى أنه من المقرر أن يلتقي عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي وخالد المشري رئيس مجلس الدولة في القاهرة خلال الأيام القادمة لمواصلة البحث حول الصيغة الدستورية التي ستتم عليها الانتخابات الليبية القادمة وهو ما تحرص القاهرة على إنجاحه وعلى الحفاظ على التهدئة والأمن في ليبيا وإجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية القادمة والتوصل إلى حل سياسي، سواء من خلال التوصل إلى توافق ليبي ليبي واسع النطاق، أو من خلال تشكيل حكومة جديدة مصغرة للتحضير لإجراء الانتخابات ولإجراء تغيير سياسي يسهم في فتح الطريق أمام الجل السياسي ويظل التوافق المصري-التركي والإقليمي والدولي الأوسع مهما في هذا المجال، ومن غير المستبعد أن تكون محادثات كل من الدبيبة وباشاغا مع المسؤولين الأتراك الأسبوع الماضي جزءًا من الإعداد لذلك تتضافر معه التحركات المصرية مع العديد من الأطراف المعنية ليبيًا وإقليميًا ودوليًا.

ثالثا: على الصعيد الدولي فإن ما يبعث على الأمل أن مجلس الأمن وافق على ترشيح الأمين العام للأمم المتحدة للسياسي السنغالي عبدالله باثيلي ليكون مبعوثًا خاصًا له في ليبيا وليترأس بعثة الأمم المتحدة فيها، خاصة أن فترة ولاية ستيفاني وليامز مستشارة جوتيريش لليبيا انتهت بالفعل في 31 يوليو الماضي، ومن ثم فإن باثيلي -75 عاما- الذي عمل مستشارًا لجوتيريش في إفريقيا الوسطى ومدغشقر ومالي منذ عام 2014 لديه خبرة بالقضايا الإفريقية ومنها الأوضاع في ليبيا ومن المأمول أن يحظى بتعاون مختلف الأطراف الليبية والإقليمية والدولية وأن يتمكن من حمل الأطراف الليبية على التهدئة تمهيدًا لإجراء الانتخابات الرئاسية والليبية، وحتى الآن فقد رحب الدبيبة وباشاغا وكذلك الولايات المتحدة بشغل عبدالله باثيلي لمنصبه وهو المسؤول الأممي الثامن فيه منذ عام 2011.

وفي النهاية سيظل النجاح مرهونا بمدى التوافق بين الأطراف الليبية والإقليمية والدولية وتنفيذ دعوة مجلس الأمن للحفاظ على وقف إطلاق النار وعدم التصعيد وعلى «انسحاب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا دون تأخير»، أما وقف التدخلات الإقليمية في الشؤون الداخلية العربية فإنه يحتاج بالضرورة إلى توفر بيئة داخلية وعربية لم تتوفر بعد كل مقوماتها لا في الدول المعنية ولا على المستوى العربي العام ولعل ذلك يتوفر في المستقبل.