أبعاد ثنائية وخليجية وإقليمية للقمة العمانية القطرية

29 نوفمبر 2021
29 نوفمبر 2021

في ظل ما هو معروف من أن دبلوماسية القمة، التي تتم عبر اللقاءات المباشرة للقادة والزعماء، هي أعلى مراتب العمل السياسي والدبلوماسي في العلاقات بين الدول المختلفة، شقيقة وصديقة، فإن لقاءات القمة تتسم دوما بالأهمية الشديدة، بالنظر لما يترتب عليها من قرارات واتفاقات وتفاهمات تنتقل في الكثير من الأحيان بالعلاقات بين الدول إلى مرحلة جديدة، أو على الأقل أكثر تأثرا بمخرجات جلسات القمة وما دار فيها من حوارات وتبادل لوجهات النظر حول القضايا المختلفة والتي تهم الدولتين، أو الدول التي تشارك في القمة، في حالة القمم متعددة الأطراف.

وبالنظر للمرتبة الرفيعة لدبلوماسية القمة والآثار التي تترتب عليها، فان الدول تهتم عادة، وإلى حد بعيد بالتحضير للقاءات القمة ولكل ما يدور فيها، ليس فقط حرصا على إنجاحها كحدث، ولكن أيضا للسير في سياسات وخطوات تعبر عنها، وتخدم مصالح الدولة على مختلف الأصعدة، والتأكد أيضا من تجنب ما هو غير مرغوب فيه.

وفي هذا الإطار فإنه ليس من المبالغة في شيء القول أن الزيارة التي قام بها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- إلى دولة قطر الشقيقة يومي الثاني والعشرين والثالث والعشرين من شهر نوفمبر الجاري، لا تنفصل في الواقع، في جانب منها على الأقل، عن زيارة الدولة التي قام بها جلالته إلى المملكة العربية السعودية الشقيقة يومي الحادي عشر والثاني عشر من شهر يوليو الماضي، ولا عن الزيارات ولقاءات القمة التي سيعقدها جلالة السلطان المعظم خلال الفترة القادمة، سواء داخل سلطنة عمان أو خارجها، وذلك من منطلق محدد يمثل جوهر السياسة والممارسة السياسية والتحرك الدبلوماسي العماني، وهو أن سلطنة عمان، وعلى امتداد العقود الماضية، حرصت وتحرص دوما على بناء أفضل العلاقات مع الدول الشقيقة والصديقة، وأنها تضع العلاقات مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في مرتبة خاصة وذات أولوية، كما أنها في تحركاتها وممارساتها رفضت وترفض دوما الانخراط في محاور أو جبهات، أو اتخاذ مواقف مسبقة ضد أي من الدول الشقيقة والصديقة أو مقاطعتها، حرصا منها على الإبقاء على نوافذ مفتوحة ومشرعة مع كل الأشقاء والأصدقاء، وإدراكا منها لحقيقة أن الخلافات، أيا كانت مآلها إلى الحل والانتهاء، و أن العلاقات الطيبة هي أسهل السبل وأقصرها لدعم العلاقات الثنائية وخدمة المصالح المشتركة والمتبادلة مع الأشقاء والأصدقاء، طالما تم الالتقاء على المبادئ والأسس الحاكمة للعلاقات والتي تأخذ بها سلطنة عمان وتراعيها في كل علاقاتها، وهى مبادئ وأسس معلنة ومعروفة ومستقرة في السياسة والممارسة السياسية والتحرك الدبلوماسي العماني، ولذا كثيرا ما يشعر الإنسان بالدهشة لما يذهب إليه البعض في تحليلاتهم واستنتاجاتهم المتعلقة بالسياسة والتحرك السياسي والدبلوماسي العماني، لأنها تقوم على تفسير ميكيافيلي، لا تعرفه ولا تؤمن به سلطنة عمان ولم تأخذ به أمس ولن تأخذ به لا اليوم ولا غدا، لأنها ببساطة تمارس ما تؤمن به وما تعتقد أنه يحقق الخير والأمن والاستقرار لها وللمنطقة من حولها، خليجيا وإقليميا ودوليا كذلك.

ولعل مما له أهمية و دلالة عميقة أن جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- أشار في أول خطاب له بعد توليه مقاليد الحكم في الحادي عشر من يناير العام الماضي إلى أننا «سوف نترسم خطى السلطان الراحل مؤكدين على الثوابت التي اختطها لسياسة بلادنا الخارجية القائمة على التعايش السلمي بين الأمم والشعوب وحسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، واحترام سيادة الدول، وعلى التعاون الدولي في مختلف المجالات، كما سنبقى كما عهدنا العالم في عهد المغفور له -بإذن الله تعالى- حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور، داعمين ومساهمين في حل الخلافات بالطرق السلمية وباذلين الجهد لإيجاد حلول مرضية لها بروح من الوفاق والتفاهم. وسنواصل مع أشقائنا قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الإسهام في دفع مسيرة التعاون بين دولنا لتحقيق أماني شعوبنا، ولدفع منجزات مجلس التعاون قدما إلى الأمام». جدير بالذكر أن جلالة السلطان أكد مرة أخرى في خطابه يوم 23 فبراير من العام الماضي على حقيقة جوهرية بقوله: «لقد عرف العالم عمان عبر تاريخها العريق والمشرف، كيانا حضاريا فاعلا، ومؤثرا في نماء المنطقة وازدهارها، واستتباب الأمن والسلام فيها، تتناوب الأجيال، على إعلاء رايتها، وتحرص على أن تظل رسالة عمان للسلام تجوب العالم، حاملة إرثا عظيما، وغايات سامية، تبني ولا تهدم، وتقرب ولا تباعد، وهذا ما سنحرص على استمراره، معكم وبكم لنؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية». ومن هذا الوعي العميق والإيمان الراسخ بالدور الحضاري والإسهام الإيجابي لعمان جاءت زيارتا جلالته -حفظه الله ورعاه- لكل من السعودية ودولة قطر الشقيقتين، وما سيعقبهما من زيارات وتحركات أخرى، استمرارا وتأكيدا للدور العماني الذي تنتظره دول وشعوب المنطقة ودولها، سواء قالت ذلك أو لم تقله، وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى بعض الجوانب المتصلة بزيارة جلالة السلطان لدولة قطر الشقيقة يومي الثاني والعشرين والثالث والعشرين من الشهر الجاري ولعل من أبرزها ما يلي:

أولا: على المستوى الثنائي، العماني القطري، فإنه يمكن القول أن العلاقات العمانية القطرية، التي تستند إلى عمق تاريخي وإلى رغبة مشتركة ومتبادلة في دفع العلاقات بين الدولتين والشعبين الشقيقين إلى آفاق أوسع وإلى جوانب أرحب وأكثر تنوعا، شهدت خلال السنوات القليلة الماضية زخما واتساعا عمليا كبيرا وملموسا، وهو أمر لم يأت من منطلق رغبة عمانية في استثمار حدث أو الاستفادة منه، ولكنه جاء بالفعل من إدراك بواجب الأخوة والتزام بمبادئ طالما تبنتها سلطنة عمان على امتداد عقود، ومن ثم فتحت السلطنة موانئها ومطاراتها أمام قطر الشقيقة وتضاعفت أحجام التجارة والتصدير والاستيراد بين الدولتين وبما يحقق مصالحهما المشتركة والمتبادلة. ومع أن الاستثمارات العمانية القطرية ودخول شركات قطرية إلى السوق العماني يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن القفزة التي حدثت في الأعوام القليلة الماضية، ومنها على سبيل المثال إنشاء خطوط ملاحة مباشرة بين الموانئ العمانية والقطرية، وطرح أول حافلة لنقل الركاب من مصنع شركة «كروة»، وهو استثمار قطري عماني مشترك، وذلك قبل أيام من زيارة جلالته إلى الدوحة، تشير بوضوح إلى أن هناك آفاقا رحبة للتعاون والعمل المشترك بين السلطنة ودولة قطر، في مجالات عديدة ومتنوعة، تجارية واقتصادية وعمالية وملاحية وسياحية وغيرها، وأنه لا يحتاج إلا إلى دفعة مناسبة على مستوى القمة وعلى مستوى القطاعين الحكومي والخاص لينطلق إلى حيث يحقق المصالح المشتركة للدولتين والشعبين الشقيقين اليوم وغدا وبعد غد أيضا، وذلك بحكم توفر كل مقومات الاستثمار الناجح في السلطنة التي تتوفر لها إمكانات وبنية أساسية ومناخ استثماري جاذب، فضلا عن أنها تفتح ذراعيها مرحبة بالمستثمرين القطريين والخليجيين وغيرهم وتوفر لهم كل ضمانات الاستثمار المجزي والآمن والمتنوع المجالات كذلك.

وعلى ذلك، فإنه لم يكن مصادفة على أي نحو أن تحظى زيارة الدولة التي قام بها جلالة السلطان المعظم إلى الدوحة باهتمام قطري رفيع على كافة المستويات، وأن يلقى جلالته استقبالا حافلا ومميزا، يعبر عن عمق الود والتقدير المتبادل بين القيادتين والشعبين الشقيقين، وأن يتم خلال الزيارة التوقيع على ست اتفاقيات ومذكرات تفاهم شملت التعاون في المجالات العسكرية والتجارية والاستثمارية والسياحية ومجالات القوى العاملة والموانئ والطاقة ومنع الازدواج الضريبي بين الدولتين، وهي كلها اتفاقيات تعزز التعاون والعمل المشترك بين الدولتين والحكومتين العمانية والقطرية وكذلك القطاع الخاص العماني والقطري، ويظل التعاون العماني القطري تعاونا ثنائيا يصب في النهاية في مجرى التعاون والتكامل الخليجي، أي في وعاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومن ثم يتكامل مع التعاون العماني السعودي، والتعاون العماني الكويتي، والتعاون العماني الإماراتي، والتعاون العماني البحريني، ولا يتقاطع من أي منها على أي نحو، ولا بأية وسيلة، ولا تحت أية ظروف. وهو ما يشكل أرضية مناسبة لتطوير ودعم العلاقات والتعاون بين السلطنة ودول مجلس التعاون الأخري ثنائيا وجماعيا أيضا.

ثانيا: من جانب آخر، وإدراكا لحقيقة أن التعاون الثنائي بين سلطنة عمان وأي من دول مجلس التعاون الأخرى من شأنه تعزيز شبكة المصالح المشتركة والمتبادلة بين دول مجلس التعاون الست على المستويين الحكومي والشعبي، فإنه يمكن القول بأن زيارة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم للدوحة، ومحادثاته مع أخيه صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر، إنما تمثل دفعة عمانية قطرية قوية، لا تنفصل، بل تتعزز بالدفع العماني السعودي لمسيرة التعاون والتكامل بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ليس فقط للحفاظ على مسيرة المجلس وكينونته، ولكن أيضا لتنشيط هذه المسيرة بشكل أكبر، ودفعها إلى مجالات أكثر وإلى أعماق أكبر من التعاون والعمل المشترك بين دول المجلس ولصالحها جميعها في الحاضر والمستقبل، وهو ما تلتقي عليه قيادات مجلس التعاون بشكل قوي و واضح.

وإذا كانت سلطنة عمان قد عملت بوعي وتصميم على الحفاظ على مسيرة مجلس التعاون والتهيئة لتلاقي كل دول المجلس ولتضييق شقة الخلافات، إذا حدثت، واستعادة زخم التعاون المشترك في إطار مجلس التعاون، الذي يمثل البيت الخليجي المشترك، فإن مما له دلالة عميقة أن دولة قطر الشقيقة التي انسحبت من منظمة أوبك أكدت بوضوح تمسكها بمسيرة التعاون والعمل المشترك في إطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية خلال السنوات الأخيرة، بل وحافظت على استمرار تدفق الغاز القطري إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وإلى سلطنة عمان عبر خط دولفين، إدراكا منها لأهمية استمرار التعاون في إطار البيت الخليجي المشترك، وتأتي عودة العلاقات بين قطر وكل من السعودية ودولة الإمارات ومملكة البحرين ومصر، عقب قمة العلا في السعودية لتوفر مناخا مواتيا، ولتدفع بالتعاون الخليجي المشترك إلى الأمام.

وفي ظل المواقف المعروفة لكل من مسقط والدوحة، فإن القمة العمانية القطرية من شأنها أن تعطي زخما ملموسا لمسيرة التعاون الخليجي المشترك في مختلف المجالات، وهو ما أكد عليه البيان المشترك الصادر في ختام الزيارة، ولتعزز الثقة في أن مجلس التعاون لدول الخليج العربية، قادر بحكمة قيادات دوله على تجاوز أية صعوبات أو تحديات قد تطرحها التطورات والأحداث، وأن ثقة دول وشعوب المجلس في مسيرة التعاون الخليجي المشترك قادرة على الحفاظ على استمرار مسيرة مجلس التعاون وتفعيلها بشكل أكبر، يضاف إلى ذلك أن إنجاز أية دولة من دول المجلس الست، ومنها على سبيل المثال « اكسبو دبي 2020 «، وبطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 ، التي تستضيفها قطر العام القادم، إنما يتجاوز الإطار المحلي للدولتين الشقيقتين ليصب في إطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية ككل، بل وفي الإطار العربي أيضا، ولم تكن مصادفة أن يقوم جلالة السلطان المعظم بزيارة استاد «البيت» الرياضي في مدينة الخور القطرية، وأن يشيد جلالته باستعدادات قطر الشقيقة لاستضافة وإنجاح بطولة كأس العالم لكرة القدم العام القادم.

ثالثا: أنه في الوقت الذي تتجاوز فيه القمة العمانية القطرية، بنتائجها ومخرجاتها، الإطار الثنائي للدولتين الشقيقتين، لتصل إلى الإطار الخليجي الأوسع، فإنه من المؤكد أن نتائج القمة تمتد بالضرورة إلى الإطار الإقليمي، وذلك من خلال القضايا التي تم طرحها وتبادل وجهات النظر بشأنها خلال المحادثات بين جلالة السلطان المعظم وأخيه صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر الشقيقة من ناحية، ومن خلال الإسهام الإيجابي والنشط لكل من مسقط والدوحة لحل عدد من القضايا التي تجثم على صدر دول المنطقة، والتمهيد لتسوية سلمية لعدد منها من ناحية ثانية، هذا فضلا عما تتمتع به السلطنة ودولة قطر الشقيقة من قبول وتقدير دولي ملموس للدور الإيجابي الذي يمكنهما القيام به معا لاستعادة وتحقيق السلام والأمن وإنهاء الحروب والمواجهات المسلحة في بعض دول المنطقة من ناحية ثالثة. وعلى ذلك فإن زيارة جلالته إلى الدوحة تشكل إضافة طيبة وملموسة للعلاقات العمانية القطرية، ولمسيرة التعاون في إطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وعلى المستوى الإقليمي كذلك كما سبقت الإشارة. وهو ما يأتي مصداقا لما أعلنه جلالة السلطان المعظم منذ توليه مقاليد الحكم العام الماضي.