نوافذ : نتحدث عمّا ينقصنا

24 يونيو 2022
24 يونيو 2022

[email protected]

لن أتحدث عن مباهج الغنى وأنا أعاني من الفقر، ولن أتحدث عن فضاءات العلم وأنا أعاني من الجهل، ولن أتحدث عن استحكامات القوة الجسدية وأنا ضعيف البنية، ولن أتحدث عن هبات العدالة وأنا أعاني من الظلم، ولن أتحدث عن أهمية الأمانة وأنا أمارس الخيانة، ولن أتحدث عن مخارج الصدق وأنا أرى في الكذب الوصول إلى غاياتي، ولن أتحدث عن جمال الكرامة وأنا أريق دماء وجهي على أرصفة الطرقات، ولن أتحدث عن معززات الصحة وأنا أعاني من المرض، والحديث المقصود به هنا حديث الـ «نخبة»، حديث التفضيل أو المفاضلة، حديث الآمنين المطمئنين، فالمنظرون- غالبا- يتحدون من هذه الزاوية، ويتركون مجموعة المفارقات الموضوعية لهذه الصور كلها، ولذلك لن تجد فقيرا يتحدث عن الاستثمارات؛ بل عن كيفية الحصول على لقمة العيش، ولن تجد غنيا يتحدث عن الفقر، لأنه لا يمثل له شيئا مقلقا، ولن تجد مظلوما يتحدث عن الأمان والاستقرار، وإنما عن عدم تحقق العدالة، وانتشار الظلم، ولن تجد مريضا يتحدث عن عوائد المظلة الصحية، ولن تجد معلما يتحدث عن الجهل، فالمساحة الأفقية للتعليم عنده لم تبق شيئا من آثار الجهل، وقس على ذلك أمثلة كثيرة في الحياة.

هذه المفارقة الموضوعية بين واقع الإنسان الحقيقي، وبين واقعه الافتراضي، كثيرا ما تجير في مفهوم آخر لتغطية مجموعة من النواقص، أو المغالبة على واقع حقيقي غير مرغوب فيه، أو غير مستقطع من اهتمامات كثير منا، ولذلك ينصح دائما بعدم الجلوس في مجلس يتحدث فيه عن الأموال والاستثمارات؛ إن كنت تعاني من ضائقة مالية، ولا تجلس في مجلس يتحدث فيه عن العلوم، والدراسات البحثية؛ إن كنت لم تتخط المراحل الأولى من التعليم، ولا تجلس في مجلس يتحدث فيه عن البرامج الترفيهية، والأسفار والرحلات؛ إن كنت لا تملك أجرة سيارة تنقلك لأقرب مدينة تود زيارتها، والسبب في هذه النصيحة أن كل ما يدار حولك من أحاديث في هذه الجوانب المختلفة؛ وغيرها، لن يزيدك إلا كآبة وهزيمة نفسية، ليس لأنك غير راض بما قسمه الله لك، ولكن لأن النفس من طبيعتها أن تستنفر المواقف المضادة، وترى فيها تحميل ما لا يحتمل، مع أن الحياة؛ في حقيقتها؛ قائمة على هذه الفوارق المتضادة، وهي فوارق موضوعية؛ أي غير مفتعلة؛ إطلاقا، فهذه سنة كونية، أوجدها الله تعالى في خلقه، ليظهر مدى التباين بين الناس، وحتى يملأ الآخر فراغ الحاجة لآخر مثله.

الإشكالية الموضوعية في هذا الجانب ليس فقط وجود هذه المفارقات لتنغيص النفوس والقلوب في آن واحد، ولكن في حدوث تأثيرات سلبية كثيرة أكثر خطورة، وأكثر حماقة، وذلك لأن من يستشعر هذه الفروقات والتمايزات بينه وبين الآخر، لا يسلم الأمر، ويرضى بقدر الله له، وإنما يحمل حرب شعواء؛ كما يقال؛ على هذا الآخر، ويسقط عليه كل إخفاقاته هو في الحياة، ولا يستحضر فضل الله على هذا الآخر الذي ميزه الله بشيء من الغنى، أو العلم، أو البساطة، أو التواضع، أو الكرم، وبالتالي لن يرى في الكون إلا الوجه المظلم الكالح، الذي لا مخرج منه إلا بإقصاء الآخر، وإفساح المجال له وحده فقط، وهذه مشكلة بالفعل.

* أحمد الفلاحي كاتب صحفي عماني