نوافذ: متحف البراءة

28 يوليو 2021
28 يوليو 2021

تأخرت في القراءة لـ ”أورهان باموق“ حتى وجدت نسخا من أعماله المترجمة إلى الإنجليزية بالصدفة، في مكتبة تقع في نهاية شارع الاستقلال بإسطنبول.

استهللت رحلتي مع باموق بقراءة رواية ” متحف البراءة“، وقبل أن أختمها، زرت المتحف الذي كان يقع أسفل الزقاق المنحدر الذي تقع المكتبة التي اشتريت منها نسختي في أوله، وكما أشار الشاب اللطيف في المكتبة، هبطت الدرب الطويل، وتوقفت عند أكثر من دكان لبيع الهدايا أو القهوة لأسأل عن مكان المتحف، دون أن يدلني أحد عليه، إلا أني وقبل اليأس بقليل، عثرت على فتاة شابة، تبيع التذكارات، الفتاة تعرفت على نطقي ل” أورهان باموق“، فدلتني على البيت الذي صار متحفا.

لم يكن البيت بعيدا، ربما خمسون مترا من النزول الحاد، ثم الدخول إلى زقاق فرعي جهة اليسار، حيث وجدت بيتا أحمر، يعود إلى القرن التاسع عشر، وله شباك تذاكر.

كانت أحداث وتفاصيل الرواية ما زالت طازجة في ذهني، وبهذه (الطزاجة) دخلت المتحف، فوجدتني أستعيد أحداث الرواية، والمشاهد بيسر شديد، وأنا أسير في القاعات المحتشدة بالمقتنيات، وأصعد درجاته بحذر حتى أصل السقيفة، حيث وقفت أمام السرير الذي من المفترض أن البطل ” كمال“، كان قد أملى الرواية فيها على الكاتب.

هذا التماهي بين الخيال والحقيقة شكل لغزا بالنسبة لي؛ ليس لأنه لا يحدث، بل لأنه يحدث أمام ناظري بكل هذا الوضوح، وهذا الوضوح كان كفيلا بإشعاري بالحزن، فكيف لرواية أن تكون حقيقية لدرجة لمس تفاصيلها، فستان فوسون، الكلاب الخزفية، أعقاب السجائر، قطع الصابون، فردة الحلق الذي كانت ترتديه عندما التقيا، ثم فقد في ساعة حب، أوراق المخطوطات، السرير بتجاعيد ملأته البيضاء.

كان حزني ممزوجا بدهشة شديدة، والكثير من الأسئلة، فمن تشكل قبل من؟ المقتنيات أم الكلمات؟ المتخيل أم الواقعي المحسوس؟ ورغم أن الجواب قد يبدو بديهيا إلا أنه كان بالنسبة لي في تلك المرحلة من تجربتي الروائية، صعب التصديق، فكيف تحول المقتنيات إلى حكاية، ومشاهد، وفصول تشكل جميعها نسيج رواية، أعتبرها شخصيا واحدة من أفضل ما كتب باموق.

في كتابه ” الروائي الساذج والحساس“ يخبرنا باموق بالكيفية التي بنى فيها الرواية، من خلال تجميعه للمقتنيات، وكيف كان يتجول بين معارض التحف، ودكاكين العاديات، فيلتقط كلبا خزفيا من هنا وقنينة عطر فارغة من هناك، أو فستانا وجده الأنسب لفوسون وهي تتدرب على قيادة السيارة مثلا، وكيف بنى المشاهد مستلهما تفاصيلها من هذه المقتنيات بكامل ماديتها، وكيف في المقابل أوحت له بعض المشاهد بمعروضات المتحف، مثل لوحة أعقاب السجائر، التي جمعت في جدارية ضخمة آلاف أعقاب السجائر التي من المفترض أن البطلة ”فوسون“ قد دخنتها في الأماسي الطويلة، الغارقة في الصمت، صمتها وصمت ” كمال“.

من التذكارات التي ما زلت احتفظ بها من ” متحف البراءة“ لوحة فيها تصوير للجهاز الهضمي للإنسان، مبينة أين يشعر العاشق بآلامه المختلفة، ألم الشوق وألم الخذلان وألم الرغبة وألم الفقد وألم الخيانة، لذا فلا عجب إن اعتبر متحف البراءة ملتقى للعشاق في وسط اسطنبول، وأقصد بذلك العشاق الحقيقين وعشاق فن الرواية، الذين يتداوون بالقراءة.