نوافذ :كلام الناس

02 يونيو 2023
02 يونيو 2023

[email protected]

جبلت النفس الإنسانية على التنظير في كل شيء، بمعرفة وبغير معرفة، بقصد وبغير قصد، ولأن الكلام ليس محصورا على أحد دون آخر، إذن فالجميع يتكلم، والجميع يُنَظِّرْ، والجميع يعلل، والجميع يفسر، والجميع يدافع، والجميع يتهم، وكل هذه الصور هي من مفرزات الكلام، ولأن «اللسان ليس به عظم» - كما يقال في المثل - فسيظل هو الحامل للواء الكلام، وهو المتحدث باسم النفس التي تختلج فيها الأفكار، فتظهرها على شكل كلام؛ حيث يبقى اللسان هو المتسيّد في جميع المواقف، صدقها وكذبها، حقيقتها وضلالتها، واقعيتها وزيفها، ومن يستطيع أن يحاكم اللسان؛ فليتفضل.

تنطلق سهام الكلام فتفعل في النفوس ما لا تفعله سهام الحديد، وتميت النفوس والقلوب؛ أكثر مما تموت منه النفوس من الأمراض والحوادث، والمآسي الأخرى، حيث ترزح النفس تحت وطأة الكلمة أياما، وربما شهورا حتى تستعيد عافيتها شيئا فشيئا، مع بقاء الجرح نازفا يئن من وطأة كلمة قصد بها صاحبها الإساءة أو لم يقصد، ومع الإيمان بواقعية عبارة: «كلام الناس أشبه بالتراب إذا لم يطر بالهواء فهو يداس بالأقدام، عش عفويتك فألسنة الناس لن تصمت»- مجهولة المصدر - إلا أنه ليس من اليسير أن نتجاوز سهام الكلام التي تميت النفس والقلب في آن واحد، وتترك جروحا غائرة.

تشتعل اليوم-امتداد لذات الفطرة الإنسانية- وسائل التواصل الاجتماعي بالكثير من «كلام الناس» وهي واقعة في ذات المصيدة (حقيقي؛ ومجانب للحقيقة) وإن يصعب الجزم بأنه غير حقيقي بالمطلق، حتى لا نقع في دائرة ظلم الآخر، حيث إنه في كل وسط كان لا بد أن تكون هناك حالة من التوازن، حتى لا يتأثر ميزان الحياة القائم على الإنصاف، وذلك انعكاس لأمر الله عز وجل الذي يُقَيِّمْ الكون كله، ويأتمر بوجود هذا التوازن؛ حتى لا يختل ميزان الحياة، وتحدث الكارثة، ولأن وعينا لمختلف الأمور التي تحدث متواضع، وفهمنا بسيط، قد نرى أن الشر مستفحل أكثر من الخير؛ ويحدث ذلك لأن وقع الشر ثقيل على النفس؛ والحقيقة غير ذلك تماما؛ وفق مفهوم العدل الإلهي، ومع ذلك حذر الله تعالى في القرآن الكريم من المرجفين، وهم: «الذين يولدونَ الأخبار الكاذبة التي تحدث اضطرابا للناس»- حسب المصدر - حيث إنهم بأراجيفهم هذه يثيرون الفتن، والمشاكل بين الناس، ويثيرون الناس بعضهم على البعض، فيحدث الشقاق والاختلاف، وتتنازع القوى، وتوهن اللُّحَمْ الاجتماعية، ويضعف التعاضد بين الجماعات؛ فتغدو المجتمعات واهنة، مستسلمة لمارد الكلمة السيئة.

يقول جيت لي - من أعلام الصين: «أحيانا أتفق مع البعض في آرائهم فقط ليتوقفوا عن الكلام!» وهذا جانب من المحاججة الباطلة، وهي امتداد لكلام الناس الذين يحاجون ويحاجون، ليس في إظهار حقيقة ما، بقدر ما هو تأصيل للذات المجبولة على الكلام، فالمهم هنا أن الناس يتكلمون بحجة وبغير حجة، وقد وصفت «الأراجيف» بأنها «ملاقيح الفتن»، وقد قيل: «معظم النار من مستصغر الشرر»، ومع ذلك فهناك يظل الكلام هو الوسيلة الأقرب لسرعة الفهم، وإيضاح المعاني، وتنقية الحكمة من الشوائب، ومن جميل ما قرأت في هذا الفهم - وفق مكسيم جوركي (أديب وناشط سياسي روسي): «كانوا سابقا يسجنون الناس لأنهم يسرقون، أما الآن فهم يسجنونهم لأنهم يقولون الحقيقة».