نوافذ .. الملعقة من جديد

18 سبتمبر 2021
18 سبتمبر 2021

الأسبوع الماضي مدحتُ الملعقة انطلاقا من نجاحها غير مرة في إعادة الحرية لأسرى أو سجناء وضعوا كل ثقتهم فيها فلم تخن هذه الثقة وساعدتهم في حفر أنفاق كبيرة ما كان أحدٌ ليصدق للوهلة الأولى أنها حُفِرتْ بملعقة، لكني ختمتُ مقالي بأن هذه الملعقة لم تنل حقها من الإطراء، وإذا ما ذُكِرتْ خارج دورها التقليدي فلأمر سلبي. وأضيف اليوم أنه حتى هذا الدور الكلاسيكي المتمثل في كونها مَغرفة للطعام نجد من ينتقدها عليه من بعض أولئك المنتمين لثقافة الأكل باليد، كما هي الحال في البيت الشهير المجهول قائله:

اضْرِبْ بِخَمْسٍ ولا تَأْكُلْ بِمِلْعَقَةٍ / إنّ المَلاعِقَ للنعماء كُفْرَانُ!

يصل تحقير الملعقة هنا حدّ رمي مستعمِلها بالكفر، في حين تبلغ الاستهانة بها درجة استحضارها – أي الملعقة - دليلًا على جبن الأمة وضعفها في عبارة للأديب مصطفى صادق الرافعي: "إذا رأيتَ كبراء قوم همُّهم عيشهم، فاعلم أنها أمة مأكولة، فلو شهرت السيف الماضي لَقاتَلَ بروح ملعقة"، ومالها روح الملعقة يا رافعي؟!، أليست هي التي فضحت أكذوبة السجن الإسرائيلي الأكثر تحصينا؟!، وهل عاد السيف الذي تتباهى به ماضيًا اليوم، أو ذا فائدة إلا في رقصة "العازي"؟.

وإذًا، فليس محمود درويش الذي استشهدت به الأسبوع الماضي المثالَ الوحيد على تذكر الملعقة في المَواطن السلبية. بل ثمة منظومة كبيرة من الأشعار والنصوص والأمثال الشعبية والحكايات التراثية التي تذهب هذا المذهب نفسه. فمثلا عندما يُراد الحط من قدر شخص والقول إنه كسول ولم يتعب على ما ناله من حظوة أو جاه يستدعى المثل القائل "وُلِد وفي فمه ملعقة من ذهب"، أما المثل الروسي فيخبرنا أن "الملعقة الفارغة تجرح الفم"، ولا أدري لِمَ لَمْ يتذكّر هذا المثلُ الملعقةَ إلا وهي فارغة وجارحة!.

وإذا ما انتقلنا إلى الحكايات التراثية وحضور الملعقة فيها فثمة حكاية أظنها من "ألف ليلة وليلة"، وقد وظفها باولو كويلو في روايته الأشهر "الخيميائي" عندما أراد الحكيم أن يكشف لسنتياغو سرّ السعادة بطريقة عملية، فأعطاه ملعقة صغيرة بها قطرتان من الزيت طالبًا منه أن يتمشى في القصر ويتأمل جماله، مشترطًا عليه أن يفعل ذلك دون أن تسقط منه قطرتا الزيت، وبعد ساعتين عندما عاد سانتياغو للحكيم، وسأله هذا عمّا رآه وشاهده من الجمال في القصر أجاب أنه لم ينتبه لشيء بسبب تركيزه على الملعقة وحرصه على ألا ينسكب منها الزيت، فطلب منه الحكيم أن يعيد الكرّة مركزًا هذه المرة على جمال القصر وأشيائه أكثر من تركيزه على الملعقة، ففعل، وعندما عاد وسرد للحكيم ما رآه من جمال في القصر، انتبه متأخرًا أنه سكب الزيت دون أن يشعر. وإذا كان الحكيم قد خرج من هذه التجربة بخلاصة أن سر السعادة هو أن تتمكن من مشاهدة كل روائع الدنيا دون أن تسكب قطرتَيْ الزيت، فإن قراءتي الشخصية لهذه الحكاية هي أن السعادة لا يمكن أن تتأتى في وجود ملعقة، فهي إما أن تحرمك من مشاهدة الجمال، وإما أن تتسبب لك في تأنيب الضمير أو تقريع الآخرين.

إذًا، فقد فشلتْ الملعقة في اختبار السعادة، فماذا عن اختبار الحب الذي خاضه بصحبة ملعقة رجلٌ من المتصوفة؟. يسرد هذه القصة زكي مبارك في كتابه "التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق" نقلًا عن سمنون المحب الذي قال "كان في جوارنا رجل له جارية يحبها غاية الحب، فاعتلت، فجلس الرجل يصنع لها حيسًا [نوعًا من الطعام] ، فبينما هو يحرك ما في القدر إذْ قالت الجارية: آه. فدهش الرجل وسقطتْ الملعقة من يده، وجعل يحرك ما في القدر بيده، حتى تساقط لحم أصابعه، وهو لا يحسّ بذلك"، وإذا كنتُ أجد صعوبة في تصديق هذه الحكاية الفنتازية إلا أن أهم ما أقرأه فيها هو أن الملعقة كانت هنا في موقف سلبي لا تحسدها شوكةٌ عليه ولا سكين، فقد تخلتْ عن دورها الطبيعي في تقليب الطعام وآثرتْ الانتحار بدلًا من أن تكون شاهدة على قصة حب جميلة.

مما تقدم من شواهد وأمثلة يبدو لي أن الناس جميعًا لن يحترموا الملعقة، ولن يعرفوا لها قدرا، إلا حين يصيرون سجناء، فاقدي الحرية، باحثين في سجونهم مُحكمة التحصين، عن أي بصيص ضوء للشمس ولو.. بملعقة طعام صغيرة!.