نوافذ.. السرد جوهر الصحافة

27 نوفمبر 2022
27 نوفمبر 2022

كنتُ أضع في يد أبي، مساء كل جمعة وهو ذاهب إلى عمله في الإمارات، مظروفا به قصّة مصورة، ليودعها في بريد مجلة "ماجد"، ظنا مني أنّ الأطفال الذين في نفس مرحلتي الابتدائية هم الذين يكتبون القصص، وفي كل أربعاء يعود أبي مُحملا بعددٍ جديدٍ من المجلة، كنتُ أبكي دون انقطاع لأنّ قصصي المصورة لم تنشر بعد، وتكرر الأمر إلى أن نشروا لي في باب "عندي مشكلة" ردا يُشير إلى أنّ قصص المجلة يكتبها متخصصون كبار، آنذاك ضحكتُ كثيرا، ثمّ تكونت لديّ رغبة حقيقية في العمل الصحفي.

ولأنّ تاريخ الأفراد لا ينفصل عن التاريخ العام، فإن تلك الحادثة لم تكن مجانية في حياتي، إذ منذ صيف عام ٢٠٠٥ بدأت علاقتي -بالمعنى المهني- بجريدة عُمان التي تُكمل الآن نصف قرنٍ من الزمان على صدورها.

كما أنّ قراءاتي الجامعية عرفتني على الكثير من كُتاب الرواية ممن امتهنوا الصحافة، الأمر الذي أضفى بُعدا رومنسيا على هذا الخيار، فماركيز كتب رواياته العظيمة مُتكئا على مسيرته الصحفية، كما استفاد منها ساراماغو وأمين معلوف، "فالقدرة على التقاط اليومي يوفرها السرد الصحفي"، كما قال أمبرتو إيكو.

وعيتُ مبكرا بأنّ الكتابة الروائية والصحافة ينهل أحدهما من الآخر إلا أنّهما لا يمتزجان، يبدو أحدنا كمن يسير على حبل سيرك قابضا عصاه من المنتصف، فالسرد الصحفي ينهضُ على لغة سهلة ومباشرة، بينما يذهب الأدب إلى المواربة والتخييل وخلق المفارقات.

أتذكر جيدا عندما وصلتني رسالة وأنا أدرس في جامعة حلب، تفيدُ بأنّ نصي القصصي "صوت" نُشر في ملحق شرفات الثقافي، كان ذلك يعني أن ينبت لي جناحان من فرح. ركضتُ في أنحاء الشقة الضيقة وسط بهجة آسرة، دون أن أعي أنّ الأقدار ستحملني يوما إلى العمل في هذا الملحق الثقافي المهم.

لقد أتاحت لي الصحافة الثقافية نسيجا جديدا من العلاقات الإنسانية، السفر لتغطية معارض الكتب ومهرجانات السينما والأسابيع الثقافية في عواصم عربية وعالمية. نمّت في داخلي الفضول والأسئلة واللهاث وراء الإجابات، كما أنّ الانكباب الطويل على كتابة مادة صحفية جيدة، كالمقالات وعروض الكتب واستطلاعات الرأي والتحقيقات، علمني الصبر على مشاريعي السردية ونفي خرافة انتظار شياطين وادي عبقر.

كُثر ممن كانوا يأتون إلى حفلات توقيع كتبي الأدبية، كانوا يأتون من معرفتي ككاتبة مقال أكثر من كونهم قراء روايات، الأمر الذي كان يُثير دهشتي حقا، ربما لميل الناس أكثر إلى من يُفند قضاياهم اليومية بوضوح تام.

عليّ أيضا ألا أنكر أنّ الصحافة أخرجت لغة كتابتنا الأدبية من رمزيتها العالية، "فالصحافة هي المعمل الأساسي الذي تُصنع فيه اللغة الجديدة كل يوم"، سأتذكر فلوبير الذي التقط "مدام بوفاري" من خبر في صحيفة، كما سأتذكر همنجواي الذي ذهب إلى لغة متقشفة مستفيدا من اللغة التي كتب بها تقاريره الصحفية في الحرب.

تُكابد الصحافة الآن وفي العالم أجمع تحديات صعبة، ولذا يتوجب عليها أن تبحث عن منابع جديدة، فإن كانت لا تمتلكُ السيطرة على المادة الخبرية التي تطيرُ بسرعة هائلة، فالرهان على تطوير أدوات الكُتاب الذين يمتلكون ملكة التحليل وكتابة القصص الصحفية، الرهان على إثارة المتعة في المتلقي تجاه قضاياه. تقول الباحثة ماري فانوست: "إن الصحفيين الذين يلجؤون للسرد مقتنعون بأنّهم يقدمون للقارئ فهما أكثر شجاعة، وأكثر عمقا للعالم الذي يحيط بنا".

لقد تغيرت العلاقة بين المرسِل والمرسَل إليه، فتلك الفرادة بأنّ الصحف مصدر وحيد للمعلومة، تناءت أمام زحف إلكتروني جعل من كل مواطن مصدرا للمعلومة بالكتابة والصوت والصورة، "اليومي المحتقر في الأزمنة القديمة جعلته الحداثة جوهرها"، فالأحداث الكبيرة كالآفات والحروب العظيمة وسقوط الأنظمة، لا تكبر ولا تتشكل خارج اليومي، ولذا تكمن أهمية الصحافة في استقراء جوهر اليومي والعابر.

نحن على حد تعبير هايدجر"نقيم في اللغة"، ولذا ستظل حاجتنا إلى اللغة أبدية، كما هو حال حاجتنا للإخبار عن حدث ما، ولذا ستعيش الصحافة وإن تغيرت صورها ووسائطها. "فكل معتقداتنا وعلومنا وذكرياتنا هو سرد وتسلسل أحداث، فنحن لا نُسلم بحقيقة أي شيء إلا إذا كان قابلا للسرد".