نوافذ: الخمسون

18 يناير 2022
18 يناير 2022

انفرط عام من العمر كنت أتكئ عليه ليسندني من مزالق الكبر، شعيرات بيضاء نبتت في كل مكان باتت علامة واضحة على التقدم في العمر، الجسد المثقل بالكثير من متاعب الحياة لم يعد يحتمله عظم واهن. كلمات وهنهنات تسمعها بين فينة وأخرى تسمّيك مرة بالعم وأخرى بالوالد وغيرها بـ "الشايب" كلها علامات على كبر في السن بدأت صورها في الوضوح قليلا قليلا.

عتبات الأربعين كانت ملاذا ومآلا للشباب فيها كل النعم والخيرات والبركات وفيها كما قيل اكتمال العقل ورجحان الفكر وإيتاء الحكمة واكتمال الحلم وفهم المنطق وفيها بعض من رائحة الثلاثين التي هي فورة الشباب وفتوته، وقوته، وعنفوانه، وسلطانه وقبلها العشرون التي كانت انطلاقة لسباق الحياة ومضمارها الطويل.

العشرون ثم الثلاثون بعدها الأربعون وحبات العمر تبدأ في الانفراط واحدة تلو الأخرى حتى تصل إلى الخمسين التي هي بداية لعتبة كبرى وعقبة أخرى من عقبات وعتبات العمر يتغير فيها كل شيء ويتحول وكأنه بداية جديدة وميلاد جديد ينتقل فيه الإنسان من عقبة الشباب إلى عقبة الشيخوخة والكهولة ليبدأ فيها بالنزول التدريجي من قمة العمر وفورته إلى مسارات أخرى تكون أبطأ وأسهل مدفوعة بجهد سابق ساهم في تخفيف ضغوط الحياة ومتطلباتها.

ناقوس الخمسين دقّ مبكرا فاستشعرت صوته وخبرت كنهه وعرفت ماهيته وكيف سيكون الوضع عند الوصول إلى تلك العتبة، رأيته في وجوه الأحباب والأصدقاء كيف تبدلت حالهم وتغيرت صورهم وتبدلت ذواتهم وتنقهت أنفسهم، رأيت علاماته ظاهرة وباطنة على وجوه الأحبة في قمة الرأس واستدارة الوجه وتشكل الجسم والبدن ورأيت ما خفي عن النظر من تحول وتبدل في الأمزجة والأهواء والأنفس ورأيت تحول النفس وميلها إلى الدعة والسكون والابتعاد عن كثير من ماديات الحياة إلى جوهر الحياة وسرها الأزلي، رأيت البعض يركن إلى العمر ويتكئ عليه ورأيت الغير لا يلقي له بالا فهو كما يقول مجرد رقم من الأرقام في الحياة فأنت مرهن بما تفعل ولست أسيرا بأرقام الحياة.

بدأت أتأهب لبلوغ هذا الرقم مع أن المسافة التي تفصلني عنه ليست بالبعيدة لكنني بالغت في الاستعداد لهذه العتبة، أقلعت عن كثير من العادات السيئة في الأكل والشرب فالجسد الواهن قد لا يسعف في تجرع سموم زائدة عنه، عكفت على التأمل والتدبر والاختلاء والبعد عن كثير من صخب الحياة وضجيجها والتمست لنفسي ساعات للخلوة بعيدا عن الأعين كخلوة العابد في صومعته، أدمنت غذاء الروح والعقل فعكفت على القراءة والاستماع والمشاهدة والتعلم فالحياة كما أيقنت لا تقف عند حد للعلم والمعرفة والتعلم فهي من المهد إلى اللحد، اقتطعت من يومي أجزاء للمعرفة والتعلم ومجالسة من يستفاد بعلمهم لا من يضيق الصدر بجهلهم. بدأت في التطواف والمشي في مناكب الأرض وهضابها وسهولها فلا شيء يضاهي المشي والتأمل في الطبيعة ومعجزاتها وجمالها وسحرها فهي الملاذ لكل حيران وهي السكن لكل تائه هيمان.

أجدني وأنا على عتبات هذا العمر أناقض ذاتي أحيانا وأناقض فطرة الإنسان من حبه للعودة إلى الوراء إلى عمر الصغار وشقاوة الأطفال وروح الشباب كما قال مرة الشاعر فاروق جويدة كما ينسب بيت شعر له يقول فيه:

يا أيها العمر السريع خذلتني

ووضعت أحمالا على أحمالي

خذني إلى عمر الصغار لأنني

لم أنته من ضحكة الأطفال

أجدني لا أستسيغ فكرة العودة بالعمر إلى الوراء فما كان كان وقد عشته بكل تفاصيله حلوه ومره والآن مقبل على مرحلة تكمل العقد المنتظمة حباته المتناسقة فصوصه وما سيأتي من شتاءات العمر وخريفه هي محل ترحاب واستعداد.

هذا بوح داخلي لم تكتبه اليد بل القلب من كتب حروفه فهو نابع من صدق عاطفة ونبل مشاعر علّ البعض يتفق فيها معي والبعض يخالفني فيها الرأي ويبقى الفيصل في ذلك كله كيف يرسم الإنسان خطاه وكيف يختار مصيره فكل شيء مرهون بالإنسان وإرادته.

Ashuily.om