نوافذ :الحزن غيمة والندوب نجوم

17 مايو 2023
17 مايو 2023

بين النثر والشعر هناك حياة تملأ وتفيض على مهل، حياة مشغولة بالتجارب والتفاصيل التي لا ينتبه لها إلا في رؤية استرجاعية، ولحسن الحظ فإن لكل تجربة أغنيتها التي تسمها وتجعلها عصية على الذوبان في العادي.

أغانٍ لا نختارها بالضرورة ولا نسعى إليها، بل هي جزء من المرحلة، كأن تكون ذاهبا إلى المدرسة وصوت المذياع يغني «بان الصبح بانيه واييه» فتسجل كل صباحات الابتدائية في السبعينيات باسم البحريني محمد حسن.

أو كأن يحضر عبدالحليم حافظ بعد ذلك في أشرطة المراهقة، فلا تفوتنا أي دمعة حزن، بل نستعذب المشي معه ولسنين في شارع من ضباب وأسئلة، وربما في لحظات بؤس غامرة نشير إلى المرايا صارخين «لا..لا.. لا تكذبي».

ثم ترتطم بصبرا وشاتيلا على شاشات التلفاز، فينفجر الوجع العربي في وجهك فجأة، ليكشف الواقع عن وجه شديد القسوة والوقاحة، عندها يخلع الطرب وتحل أناشيد أبي دجانة وأبي راتب وغيرهم، أناشيد حماسية كفيلة بتحرير القدس لكنها ولسبب ما اختارت أفغانستان، أرض معارك الآخرين، لكن الأناشيد جرتها لتصبح جزءا من لعبة التدافع هنا، بعيدا عن القدس وبيروت وصبرا وشاتيلا، فهل كانت أفغانستان أقرب رحما؟

تحدث الحياة فينا، في دواخلنا، كما تحدث في العالم، ويخيل لي أنها تحدث بطريقة أكثر كثافة، ربما بفعل الخيال الجامح أو بأثر المجازات، لذا في مرحلة ما نترك لسالم علي سعيد أن يأخذنا في سفر عكس كل ما عهدناه من ذائقة الأغاني، فينفتح الباب لرذاذ الجنوب الندي.

في أواخر الثمانينيات وبدايات التسعينيات أي عند لحظة الخروج من شرنقة التكوين إلى هذا الهجير، يتسلل صوت عبدالكريم عبدالقادر إلى أرشيف الوجع، ويستقر في الذاكرة بوصف أغانيه دليلا مرجعيا للمرارات والأحزان.

يتلو صوته الجراح واحدا واحدا بعذوبة لا يفهمها إلا من أثخن، ذلك أن الخذلان لا يخص أحد بعينه، فكلنا جزء من خذلان العالم، وجرحنا امتداد عضوي لجرح الوجود الذي لا شفاء منه، أنت موجود.. إذًا فأنت تتألم، ألست مخلوقا في كبد؟

لكنا لا نفهم أو لا نريد أن نفهم، بل نريد أن نحتفظ بوجعنا، أن نقول هذا الوجع لي، يخصني وحدي وإن أشاعته الأغاني.

اكتشاف عبدالكريم في ذلك الوقت كان أيضا اكتشافا لنوع جديد من الحزن، حزن جزع، مفرط في أساه، وكأنه غاية لا نتاج جانبي لما نحن فيه، أو كأنه سكين رسم مسطحة تحول الحزن غيمة والندوب نجوم -إلا أنها غير قادرة على قتل أحد- يخاتلنا، فنظن في لحظة أننا شفينا ثم نكتشف أنه «لا خطاوينا وراها لقى وإن تلاقينا نتلاقى بألم»، وأننا قرابين، مجرد قرابين.

توجعنا الأغاني لكننا نسعى إليها، نريد ما يبكينا، لا يشغلنا الشفاء ولا التطهر، مازوخيون ربما، لكننا مغلوبون برقة الألم، الألم الذي سيعيد تشكيلنا، مثل الحياة، مرات ومرات.