نوافذ: البيت.. ننحازُ إليه بخيالنا

18 يوليو 2021
18 يوليو 2021

ما هو البيت؟ هل هو ما توهمناه ورسمناه في كراسات الطفولة، بيت قرميد أحمر؟ هل البيت سجن قاسٍ تأتي كتابات جبران خليل جبران لتعطيه معنى؟ هل البيت هلامي ولا يمكن القبض عليه؟ وهل يمكن حقا لأبيات محمود درويش أو الحلاج أن تحوّل الفنادق القصية لبيوت؟ هل البيت مجرد منظر طبيعي، أو هو كما يقول جاستون باشلار في كتابه «جماليات المكان»: «البيت ظاهرة نفسية، وكل الصور الأليفة في خيالنا وأحلامنا مرتبطة ببيت الطفولة»؟

صدر مؤخرا عن دار روايات، «مدخل جانبي إلى البيت» لأمل السعيدي، كتاب يتحدث عن الواقع المحدود الذي يدفع المخيلة لالتباسات شديدة التعقيد، يدفع الفتاة لتصنع بيتا من الملاءات لتحمي نفسها، البيت والأنا الضاجة بداخله متشابهان، لدرجة أنّ كليهما يكره فكرة التخلي، وأن يصبح متروكا من الآخرين.

نرقب الذات المشوشة للسارد، تلك التي تريد أن تصنع تعريفا لنفسها طوال الوقت، تريد أن تقبض شيئا حول ماهيتها عبر مواقف وأشياء وصور تُقتلع من الذاكرة البعيدة. ذات مهووسة وعلى الحافة دائما، تقول صراحة: إنها غير معنية بالسرد وإن كل هذا التداعي هو محضُ تعاطٍ مع شعور بالفزع، تبرر الأمر كما فعل رولان بارت عندما كان خائفا من تحول يوميات حداده على أمّه إلى أدب ما، وكأن في ذلك خيانة!

تعيد تدوير حياتها الباهتة في نص متصل ومتداع، لا يمكنك أن تقرأه منفصلا عن بعضه، لحمته كلحمة البيت، يتداخل فيها الشخصي بالعام، السرد لا يتصاعد زمنيا هاهنا، وإنّما يتشظى في عدة اتجاهات، تتدفق الصور والأحداث المخطوفة، فتبدو الذات الساردة كمن يتعجل الخطو سريعا كيلا تُرى، كيلا تُقبض.

تتوارى قصص البيت ثم تعود لتضيف لنفسها تفاصيل جديدة، عن الأمّ التي تفقد الأجنة، قصص المدرسة، الزواج، أشجار الزينة وحبوب الاكتئاب، والحب أيضا. في البيت الذي تحوله الكتابة لشيء شديد الفرادة، نلحظ صورة الأمّ التي تلتقط أبناءها قبل أن يسقطوا من السلالم، صورة الشجرة التي أوهمت الفتاة أنّها صعدت لأعلى قمّة، صورة الجدة التي تبطء في تناول طعامها ومصدر ذلك الحب لحفيدتها التي تشاركها الطعام في طبق واحد، نلحظ صورة الحبيب الغائب، كالبيت الأول في الحنين إليه وفي تنائيه، لكن «تبرير الحب يمحو صورة المحبوب، فلا يعود إلا فكرة!».عندما يصير لها بيت، تجرده من كل الزخارف والألوان والتفاصيل الزائدة، تجعله مُحايدا، ولكنها تلهث وراء الدفء، الدفء كما لا تفسره المعاجم، تعوض بيت القرية والحقل المُلغز بشقة في مسقط بعدّة أمتار، وبستائر مغلقة طوال اليوم، فليست معنية بالعالم الخارجي.

كل شيء هنا يلهث كأنّه مُطارد، الصور تظهر وتتلاشى بالسرعة ذاتها، وروح الشعر تملأ النص، الجمل القصيرة والمتلاحقة، تذهب إلى اليومي والبسيط، ولكنه يغدو مأزوما بتفاصيله الصغيرة، كشحوب الفتاة دون مكياج إثر الليالي التي قضتها وهي تقرأ كتابا، الحزن عميق ووحشي وغير مبرر، ربما لأنّه «وجد قبل أن نولد وقبل أن يخترعوا اللغة، ولكن المظهر الصافي للحزن هو الحب».

يجد باشلار أنّ الإنسان يعيش محميا داخل الدفء، ولذا يغدو أكثر البيوت بؤسا مثل الفردوس في داخلنا، فالبيت ليس الأبعاد الهندسية وإنّما كل ما «في خيالنا من تحيز»، حتى إن ملمس أصغر ترباس يظل باقيا في أيدينا، ولكن أمل السعيدي تخلص إلى فكرة مخيفة: الذي لا يملك نفسه لا يملك المكان ولا يملك البيت!