نوافذ: ابتسامات مريم وإخوتها

15 مايو 2021
15 مايو 2021

سليمان المعمري -

نعرف جميعًا أن الابتسامة لغة عالمية يمكن أن يفهمها المرء مهما كان عرقه أو دينه أو جنسيته. من هنا يمكن أن نقف على سرّ ابتسامة مريم عفيفي وإخوتها من المعتقلين الفلسطينيين الذين اعتمدوا هذه «الاستراتيجية» لدى اعتقال عدد منهم في الأيام الماضية، ففي العادة فإن آخر ما يمكن أن يفكّر فيه ذاهبٌ لمُعتَقل هو الابتسام. لكن هؤلاء الشبان الشجعان الذين وُلِدوا وترعرعوا في الألفية الجديدة يعرفون جيّدًا أن الصورة -التي تعيد دائمًا الجزء الذي نحتاجه للكّل الذي نراه، حسب تعبير رولان بارت- هي من أهم الأسلحة التي يمكن أن يجابهوا بها عدوّهم المحتّل، لذا نجد كلّا منهم يفرش ابتسامته العريضة بمجرد انتباهه أن ثمة من يصوره. إنها رسالة مزدوجة؛ للمعتَقِل: «نحن لا نخشى من الاعتقال في سبيل وطننا ومبادئنا وحرياتنا»، ولأهل المعتقَل وأحبائه بأنني بخير، و«أنا مش خايفة، مش مهزوزة، مش مكسورة، وهذا الشيء ما راح يردعني» عن المطالبة بحقوقي العادلة، كما صرحت مريم نفسُها لإحدى القنوات الفضائية.

ثمة سبب آخر لهذه الابتسامات يمكن أن نستنتجه من تأمل نصيحة للأديب والصحفي الفرنسي راؤول فوليرو (1903-1977) تتعلق بالابتسامة التي تمنح الراحة للمتعَبين، والشجاعة للمحبَطين. ينصح فوليرو: «في حال قابلتَ شخصًا لم يعد يعرف الابتسامة، فكن كريمًا معه وأعطِه واحدةً منك، لأنه لا يوجد أحد أحوج إلى الابتسامة أكثر من ذلك الذي لا يستطيع أن يعطيها للآخرين». وهذا ما فعلتْه مريم بالضبط. فقد رشقتْ بابتسامتها الجنديَّ الإسرائيلي الذي يعتقلُها، الجندي الذي لا يستطيع أن يبادلها الابتسام، لأن فاقد الشيء لا يُعطيه. وفي الوقت الذي كان يجرّدها فيه من إنسانيتها (بسحْلها) ومن حريتها (بوضع القيود في يديها) فإن مريم المبتسِمة رفضتْ معاملته بالمثل، لم تجرّده من إنسانيته، قالت له بإنجليزية واضحة: «أُدرك أنك إنسان، وقد يكون لديك أسرة وأطفال، هل تريد لأبنائك أن يكبروا مثلك ويدافعوا عن الطغاة؟ هل هذا ما أردتَ أن تكبر عليه عندما كنتَ طفلًا؟ أن تكون في الجانب المخطئ؟»، هكذا كانت تخاطبه بهدوء أخاذ، في لحظة تعذّر فيها علينا نحن مشاهدي ذلك الفيديو الذي انتشر في كل أنحاء المعمورة معرفةُ من هو المعتقِل (بكسر القاف) ومن هو المعتقَل (بفتحِها)!.

مريم تجيد لغة عالمية أخرى هي الموسيقى، تلك التي تقول ما لا تستطيع اللغة قوله. هي عازفة مُجيدة على آلة الكونتراباس، وعضو في فرقة «بنات القدس» الموسيقية، وفي أوركسترا فلسطين للشباب، وهي الأوركسترا التي اعتادت في السنوات الماضية تقديم عروض في دول مختلفة من العالم لإظهار صورة أخرى للفلسطيني غير تلك الصورة النمطية التي اعتادها العالم. ليس الفلسطيني فقط هو الشهيد، أو اللاجئ، أو المُعتَقَل، أو المهدَّم بيتُه، أو المتعرض لشتى أنواع الظلم من قوة احتلالية غاشمة لا ترحم، ولكنه أيضًا - إضافة إلى ما سبق- الإنسان العادي الذي يمشي في الأسواق، ويحلُم بالعيش الكريم، ويستمتع بالأدب، ويَطرب للموسيقى وللفنون، ويردد مع شاعره الأثير: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».

وإذْ نحيي اليوم الذكرى الثالثة والسبعين لليل النكبة الفلسطينية الطويل (الذي حل ظلامُه في 15 مايو 1948) فما أحوجنا لابتسامات مريم وإخوتها المناضلين الفلسطينيين لنستعيد الأمل في النصر، والثقة في عودة الحق إلى أهله.