نوافذ :أحببتها بتعدد زوايا النظر

16 يونيو 2021
16 يونيو 2021

لم أكن أستسيغ من قبل فكرة إعادة قراءة كتاب ما مرتين، فقراءة أي كتاب كانت بالنسبة لي هي رحلة خاصة جدا، تجربة فريدة، لا يمكن تكرارها بأي حال من الأحوال، بمعنى أنك لا تستطيع عبور النهر مرتين.

إلا أنني مؤخرا، وجدت في نفسي ميلا لقراءة كتب وروايات سبق وقرأتها، ولا أعرف لذلك سببا، إلا ربما رغبة مني في القبض على لحظة عابرة، أو ربما لإعادة الاكتشاف، أو ربما للتعلم بالتكرار، لكنه التكرار الواعي وفق ما اكتسب من خبرات تراكمت بين القراءتين.

كما أن هناك كتبا تستدعيك لقراءتها ثانية، تناديك مثلما يناديك رجع الصدى، تلح عليك، دون معرفة سبب هذا النداء.

وهذا بالضبط ما حدث لي مع رواية -أحببتها- للروائية الفرنسية آنا غافالدا،المنشورة في عام ٢٠٠٩ عن المركز العربي للثقافة، وبترجمة حسن طالب.

فمنذ مدة تلح علي هذه الرواية التي قرأتها قبل أكثر من عقد، وبمحض الصدفة، وأقصد بالصدفة هنا، أني عندما تناولتها من على الرف وأضفتها إلى سلة الكتب، لم كن قد سمعت عنها ولا عن كاتبتها، قرأت العنوان وكان بالنسبة لي كلاشيهيا، وذكرني بعناوين لقصص حب أجزم أني تجاوزتها، لكن وبعد أن قرأت الغلاف الخلفي، وكان به تعريف عن الكاتبة وشهرة رواياتها في أوروبا كلها، وأن هذه الرواية تحولت لفيلم سينمائي لم أشاهده بالطبع، قررت أن أقرأ هذا الكتاب الذي بدا لي خفيفا، وبالتأكيد لا يضر المرء أن يقرأ كتابا خفيفا وظريفا، بين الفينة والأخرى.

أتذكر أنه فور خروجي من مكتبة كيناكونيا بدبي مول، جلست في مقهى صغير مقابل الباب، وقرأت حوالي نصف الرواية في جلستي تلك، بين علبة ماء وفنجان قهوة وقطعة كيك ضرورية بحكم العادة.

تبدأ الرواية بحوار بين امرأة وحميها، إذ يعرض عليها حموها السفر برفقته هي وبناتها، ليحظوا ببعض أيام من الهدوء في كوخ الإجازة الخاصة بالأسرة، وهناك تبدأ الحكاية في التكشف.

القصة أيها الأعزاء، هي أن زوج -كلويه- هجرها، وطلب الطلاق لأجل امرأة أخرى، فدخلت -كلويه- في حالة من الغضب والحزن والكآبة وعدم الرغبة في التصديق، كما يحدث غالبا عند تلقينا خبرا صادما، مثل المرض العضال أو موت محب أو شيء من الأشياء التي نقف أمامها في حالة عجز شديدة.

في الكوخ البعيد، أخذ حموها في الحديث معها، محاولا أن يخفف عنها وطأة ما حدث أن يواسيها بشكل ما، أن يعيد إليها ثقتها بنفسها، أن يرمم ما استطاع من شروخ القلب والروح، أن يداوي جراحها بالكلام، لكنه ينتهي لأن يخبرها عن تجربته الشخصية، التي أدت إلى تشكل حالة الإنسان غير المحبوب الذي تعرفه، الشخص الذي لم تره إلا متجهما، قليل الحديث، وبادي التعاسة، وربما مكروها من زوجته وحتى أولاده، وزوجها واحد منهم.

شكل تناظر الحكايتين، حكاية الابن والأب، حكاية الهاجر وحكاية من أوشك على الهجر، لب الرواية.

قد تبدو الرواية - وأنا أميل إلى تصنيفها كنوفيلا- بسيطة في فكرتها، وهي كذلك أيضا في أسلوبها السهل، المقتصد، لكن ما كشفت عنه من صراع داخلي، بين سعادتنا وسعادة الآخرين، وما يحدثه الاضطرار إلى اختيار تعاستنا الشخصية، وما ينتج عنه من أذى نفسي، يقع على الآخرين أيضا، خاصة أولئك الذين رمنا حمايتهم في الأصل، حمل لي بعض العزاء حينها، فمن ذا يرغب ببقاء شريك تعيس في حياته، لن يزيدها إلا نكدا؟!

لكن ماذا بالنسبة لـ-كلويه-، التي أحبت وتزوجت الرجل الذي ظنت أنه سيبقى معها حتى يكبرا معا؟ أين هي من هذه الحكاية؟ يقول لها - بيير-: أنت أفضل حالا مما لو أنه بقي معك، أنت أفضل منه.

لكن هذه التعزية، هل تشفي حقا؟

في وقتها كشفت لي هذه الرواية، الوجوه المتعددة لأي موقف إنساني، وأن إدراكنا لهذا التعدد يجعلنا أكثر تسامحا، مع أنفسنا ومع الآخرين، لكني الآن وأنا أقرأها للمرة الثانية، أكتشف أنها لم تعمق النظر في حالة كلويه، حالة المهجور، المهجور الرئيس، لا المهجور في حكايات الآخرين وتجاربهم.

ألهذا استدعتني الرواية لقرأتها مرة أخرى، لكشف خللها، أم لكشف الخلل في قرأتي الأولى، أم لكشف الخلل في المرأة التي كنتها، أم لتبين فعل الزمن؟، وأن بين القراءتين يسقط الكثير، يهدم الكثير، ويبنى الكثير أيضا، وهذا الكثير هو الذي يشكلنا الآن، ويشكل أيضا جزءا من تعدد زوايا نظرنا للحياة.