من الغناء الإسلامي صوت طلع البدر علينا

27 مارس 2022
27 مارس 2022

تذكر المصادر التاريخية أن تاريخ هجرة النبي الكريم محمد- صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة يصادف عام 622 للميلاد. ومع هذه الهجرة بدأت مرحلة مهمة وخطيرة في التاريخ الإسلامي، ومن هنا أيضا بدأ تاريخ الغناء الإسلامي من وجهة نظري على الأقل، ذلك عندما استقبل أهل المدينة النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضوان الله عليهم بغناء صوت «طلعَ البدرُ علينا» الذي ظل محفوظا تردده الأفواه من مقام الهزام العريق أكثر من أربعة عشر قرنا. وفي حوالي منتصف السبعينات من القرن العشرين وثق ذلك الحدث المهيب المخرج مصطفى العقاد في فيلم «الرسالة» الخالد.

ولكن هذه القصة لا تخلو من جدل كعادة أي موضوع يخص الغناء والموسيقى في الثقافة الإسلامية، وفي هذا السياق وصف الإمام يوسف القرضاوي في كتابه المهم: «فقه الغناء والموسيقى في ضوء القرآن والسنة»، الذي انصح من يهمه الأمر بقراءته، بقوله: «إني لم أر موضوعا اشتجرت فيه الآراء وتعددت فيه الأقوال وتباعدت فيه الأحكام واستطال فيه النزاع مثل موضوع الغناء سواء كان بآلة (أي مع الموسيقى) أم بغير آلة»، والأمر لا يزال كذلك عند البعض حتى بشأن تاريخ وقوع هذا الحدث الغنائي الإسلامي العتيق؛ فهناك روايتان لا تنفيان وقوعه ولكنهما تختلفان في تاريخه. فأصحاب الرواية الأولى يقولون إنه وقع أثناء استقبال أهل المدينة للنبي- صلى الله عليه وسلم- وهو قادم من غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، بحجة أن المكان المشار إليه في النص «ثنيات الوداع» يقع إلى هذه الناحية من جهة الشام، وبعض هذه الروايات مسجلة بالصوت والصورة على موقع يوتيوب، وربما تكون هذه رواية حديثة مقارنة بالثانية حسب هذا المقال والله أعلم. ولكن «عمنا» جوجل المعاصر عنده الخبر اليقين بشأن موقع ثنيات الوداع.

أما القصة الأكثر شيوعا وتداولا فإنها تعود بنا إلى السنة الأولى للهجرة، وتربط هذا الحدث الغنائي باستقبال أهل المدينة للنبي محمد- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضوان الله عليهم أثناء وصلوهم من مكة المكرمة، حيث استقر صلى الله عليه وسلم في المدينة وأسس دولته، ومنها نشر الدعوة الإسلامية السمحاء، ووحد جميع أقاليم الجزيرة العربية. وفي كل مناسبة من المناسبات الإسلامية يستذكر المسلمون هذا الصوت أو النشيد الخالد، وقد اعتناء به الموسيقيون وقدموه بأساليب فنية متنوعة:

طَلعَ البدرُ علينا .. مِن ثنياتِ الوَداع

وجَبَ الشكرُ علينا .. ما دَعَا للهِ داع

أيها المبعوثُ فينا .. جِئتَ بِالأمرِ المُطاع

جِئتَ شرّفتَ المدينة .. مَرحبا يا خيرَ داع

وفي قراءة عاجلة بشأن الخلاف المشار إليه حول تحديد تاريخه استدلالا إلى موقع «ثنيات الوداع» بالمدينة المنورة، اجتهد اجتهادا متواضعا واستنطق النص من جهة وتقنيات العصر من جهة ثانية للبحث عن دلالة تؤيد واحدا من القولين: وكما ذكرت سابقا، فإنه بالبحث في خرائط جوجل يتبين موقع ثنيات الوداع جنوب المدينة من ناحية مكة المكرمة هذا أولا. وثانيا، إنه في رأي لو كان هذا النشيد قيل أثناء استقبال النبي محمد صلى الله عليه وسلم أثناء عودته من غزوة تبوك المباركة لاختلف النص تماما عن الذي بين أيدينا، حيث لا نجد فيه إشارة إلى تلك الغزوة العظيمة، كما أن النص كله وخاصة البيت الأخير «جِئتَ شرفتَ المدينة مَرحبا يا خيرَ داع» واضح لدلالة، وموقف الترحيب فيه بيّن لا يحتاج إلى عناء وأن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم خير داع لأهل المدينة. وبهذه المناسبة اعتقد أن كل ما أضيف من أبيات إلى النص أعلاه هي أبيات موضوعة في أوقات متأخرة ومختلفة وليست من أصل النص.

من جهة أخرى، أرى أن هذا الصوت أو النشيد يتمتع بمكانة عظيمة في تاريخ الغناء الإسلامي ليس كونه اللحن الأقدم، فحسب بل وكونه وثيقة غنائية مهمة من وثائق تلك المرحلة التاريخية، تحمل الكثير من المعاني والدلالات. من هنا لا فرق إن وقع هذا الحدث الغنائي أثناء عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو قبل ذلك عند الهجرة من مكة إلى المدينة، لإنه في الحالتين استقبل النبي الكريم محمد- صلى الله عليه وسلم في المدينة بعظيم الترحاب بهذا الغناء الخالد من قبل أنصارها، وهم الذين وصفهم صلى الله عليه وسلم في مناسبة أخرى نقلا عن المصدر السابق: «إن هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء». وهكذا سيظل هذا الصوت يردده ملايين المسلمين على مر العصور منذ الهجرة النبوية الشريفة حتى اليوم وإلى يوم الدين..

وكل عام وأنتم بخير بمناسبة قدوم شهر رمضان المبارك.