ملل في المكان... ملل في القصيدة

15 يوليو 2023
15 يوليو 2023

ربما كان المشي هو أهم ما تعلمته خلال أشهر الحصار البطيء عندما وقف فيروس كورونا شبحا على الأبواب والنوافذ. تعلمتُ المشي كحيلة جديدة/ قديمة لصهر الملل في بوتقة الوقت لإعادة خلقه من جديد. كنت أتحرر من مللي بالمشي على منحدر يفضي بي إلى سماء البحر، حيث تغرب الشمس في إحدى ضواحي مسقط. في تلك الأثناء كانت البلاد قد أعلنت طوارئها بتكميم مداخل المحافظات ومخارجها بسيارات الشرطة لمنع انتشار الجائحة، مع السماح بساعات إفراج محددة لاستئناف حياتنا شبه الطبيعية بحذر وتربص، بينما كنت أنفق ساعة كاملة منها تقريبا بين صعود ثقيل وهبوط خفيف نحو منحدر النهار. ولم تكن ساعة المشي تلك إلا محاولة مستميتة لفض ذلك الاشتباك الصامت مع الذات بلا تدخل خارجي، مستنتجا في الوقت ذات معنى العلاقة العكسية بين الملل والأرق من جهة، والإجهاد البدني من جهة أخرى. وسرعان ما ارتبطت لدي عادة المشي بعملية الكتابة.

إن سلمنا بأن الإحساس الثقيل بالملل كان أحد إفرازات الحجر الصحي في البيوت خلال فترة الوباء فإن الكثير من الكتابات السيكولوجية تُعلق اليوم قائلة إن الملل في حد ذاته بات يُنظر له مؤخرا بارتياب كواحد من أخطر أوبئة العالم الحديث. لكنا إن عدنا إلى الوراء، إلى خمسينيات القرن السابع عشر تحديدا سنلتقي في فرنسا بالفيلسوف الفيزيائي بليز باسكال (هو عينه من اشتهر بقانون الضغط المعروف في الفيزياء باسمه). يصرَّح باسكال ببلاغة فيلسوف بأن جميع مشاكل البشرية نابعة في الأصل من عدم قدرة الإنسان على الجلوس بهدوء في غرفة بمفرده. هذا قولٌ غير متردد دُوِّن قبل أربعة قرون خلت، أي قبل أن تتسلل الحداثة التقنية بخفة إلى حياتنا اليومية لتلبي رغباتنا وتشبع توقعاتنا عن كل ما هو أقصى من متناول اليد وأبعد من حدود البصر. لكن هذا القول لا يتوقف على استشراف مستقبل الإنسان في العالم الصناعي وما بعده، بل يلقي بظلاله على مجمل التاريخ البشري الذي نقرأه كسرد متقطع بالحركة والسكون بين حرب وهدنة، بين رحيل ومُقام - قال أبو الطيب:

فما حاولتُ في أرضٍ مُقاما

ولا أزمَعتُ عن أرضٍ زَوالا

على قلقٍ كأنَّ الريحَ تَحتي

أُصرِّفها جنوبا أَو شَمالا

أما سعدي يوسف الذي ملَّ التطواف بين مدن العالم وسئم حتى من فكرة الحنين، فها هو يقف على مفرق العواصم يتبادل ضجره مع محمود درويش الذي يقول: «لا شيء يعجبني» إذ يقول سعدي من جهته:

«تشابهت البلادُ

وصرتُ أعرف ما سألقى ههنا أو ههنا

حتى كأني راحل في راحتيَّ

كأنني في الهَضْبة الصلعاء إياها».

أهو ملل في القصيدة أم في المكان؟ أعني أهو ملل من استجداء التعبير الشعري أم من نمطية حياتنا المعاصرة التي تحتقن يوما فيوما بالتكرار والتشابه في عصر العولمة التي تواصل تذويب هوياتنا الفردية والجماعية من أجل أن نصبح «مواطنين عالميين»؟ أحاور هذا السؤال في حافلة سياحية تطوي الطريق البري بسرعة 80 كيلومترا في الساعة، بينما تُطل نوافذها كشريط الكاميرا على هضاب وسهول كازاخستان.

أدرك الآن في صمتي أن سعيي لتبديد مللي الشخصي كان المُحرك المُسبق لهذه الإزاحة المكانية الهائلة بين سمائي الأولى المجدبة والسماء الكازاخية المسقوفة بقطن السَّحاب العصي على الاختراق بعيون سياحية غريبة. غير أن هذه الإزاحة بين جبال الحجر الملتهبة وجبال آسيا الوسطى المكللة ببياض الثلج لم تكن في الواقع بتلك الدهشة التي يحلم بها إنسان ما قبل اختراع التصوير، فالتوقعات كلها مشبعة بفعل الصورة والفيديو قبل أن تبدأ تجربة الاكتشاف الحسي للمكان. إنها الألفة الاستباقية القاتلة التي تأتي من ذاكرتي العصرية المتآلفة مُسبقا مع المكان والمعتادة عليه، بصريا على الأقل، بفعل ما تضخه شبكة الإنترنت من ألوان وأشكال وأصوات ترضي الحواس المشوقة للسفر وتختزل المكان كله في فيلم قصير بدقة 4K أو أبعد، دون أن أنسى ما تعكسه هذه العدسات الجارحة من تحدٍ مصيري لأساليب الوصف الشعري القديمة والمتعارف عليها.

سيظل السائح إذن في حالة ملل واعتياد مرهقة ما دامت ذاكرته تحاصره بالألفة الافتراضية مع المكان، وهكذا يخفف التصوير الرقمي من جلال الغرابة التي لطالما مثَّلت بالنسبة لي المدخل السحري للولوج في متاهة المتعة. ولكن مع ذلك؛ فهناك عناصر أخرى في المكان لا تزال هاربة من سلطة التصوير والتوثيق الرقمي، فليس بوسع التكنولوجيا حتى اللحظة أن تقبض على ملمس الحجر أو رائحة الياسمين، كما لا يمكنها أن تحمل لي نفحة مختزلة من نسيم الوادي أو أن تضعني في غرفة افتراضية لأختبر فيها طقس المكان ودرجة حرارته. ولكن ماذا لو؟ أي ملل سيلاحقنا به العالم في المكان وفي القصيدة؟!

سالم الرحبي شاعر وكاتب