مكاشفة الذات

03 أبريل 2024
03 أبريل 2024

في عالمٍ تحكمه الصورة والضوء، يتوه الإنسان في معرفة الطريق الذي يسلكه، وتتبدى له بعض الأشواك زهرا، والأدغال المهلكة بستانا، والضباع كلابا؛ فعصر الصورة خلّاب يخلب العقول والأبصار، فتتسلل إلى الروح أدرانه، حتى تبتلعها فيغدو المرء في تيه لا ينقذه منه إلَّاهُ.

وما كان من الممكن إصلاحه بخطوات بسيطة بالأمس، يصبح شيئًا معقدًا متشابكًا اليوم، مما قد يستدعي العزلة الحقيقية ليستعيد المرء عافيته النفسية، وسلامته العقلية، وروحه المستلبة.

فكما أن لعصر الصورة مكتسبات عديدة، ليس أقلها أنها تبعث الهمة على فعل ما ينبغي فعله لينهض الإنسان بنفسه ومحيطه؛ فكذلك فيها ما يغري المرء بسلوك المنحدرات التي لم يعتد سلوكها، وخوض المستنقعات ليجتلب منها زهرة بريّة قد لا يجدها في خضم ذلك كله... فما العمل؟

«ماذا يجب أن تفعل حين لا تعلم ماذا تفعل؟ تحرَّ الصدق». هكذا يتحدث المعالج النفسي جوردان بيترسون في كتابه الشهير 12 قاعدة للحياة. استطرد استطرادا قصيرا هنا، فرغم معرفتنا وانكشاف صهيونية هذا المؤلف بعد أحداث السابع من أكتوبر، إلا أن في كتبه مما يُستفاد منه، كما أن في الكتاب نفسه من القرائن ما تدلل على علل المؤلف ذاته وموقفه السياسي الأيديولوجي، ولكن هذا لا يسوغ أن ننسف عمله أو علمه بالكامل، فهو إنسان يخطئ ويصيب، رغم خيبتنا الكبيرة بأن عقلا مثله لا يرى الوحش الصهيوني كما نراه. وقعت هذه العبارة في نفسي موقعًا أستحسنه وأتبناه، فهو موقفي من الثقافة والأشخاص على السواء، فلا يمكن بحال اعتبار الكذوب خيِّرًا، ولا الكذب خيْرا؛ بل هما على القدر ذاته من السوء.

إن الصدق مع الذات يتطلب شجاعة حقيقية، ولربما إحدى أكثر الشخصيات بروزًا اليوم ومثالا على الصدق مع الذات؛ هو جلال الدين الرومي العالم الفقيه الذي غدا متصوفا، بل غدا الأيقونة الملازمة للتصوف لا يذكر أحدهما دون الآخر. وقبله عالم العلماء حجة الإسلام (ألقابه التي استعملتها الدولة العباسية في عهد الوزير نظام الملك والخليفة العباسي أبي جعفر عبدالله) أبو حامد الغزالي، الذي كتب في أخريات حياته «المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال» وهو كتاب ماتع، صغير الحجم، عظيم الأثر، فيه من الصدق مع الذات والقارئ ما يستوجب التحية والإجلال لمؤلفه الكبير.

فالغزالي، كان في مكانة عالية سامقة يحلم بها كل من يريد حظا في الثراء والمكانة الاجتماعية، لكنه ضرب بهذين الأمرين عرض الحائط، واختار الصدق سبيلًا ومسلكًا؛ وصدق الغزالي صدقٌ مع الذات لذلك هو أصعب وأجدر بالاحتفاء، فحين انكشفت له ذاته، أبى أن يستمر في الطريق الذي يعدّه أصحاب المقياس النفعي تحقُّقًا اجتماعيًا واقتصاديًا.

ما مغزى هذا كله؟ «من الحكمة أن تبدأ بإجراء تغييرات بسيطة وتنظر إذا ما كانت تصنع فارقا. ولكن في بعض الأحيان، قد يكون تسلسل القيم بأكمله خاطئا، ويجب التخلي عن المنظومة بأكملها. يجب تغيير اللعبة بأسرها. وهذه ثورة، بكل ما تنطوي عليه الثورة من فوضى وفزع إنها ليست شيئا يمكنك الانخراط فيه باستخفاف، لكنها تكون ضرورية أحيانا. إن تدارك الخطأ يتطلب تضحية، وتدارك الخطأ الفادح يتطلب تضحية عظيمة. وتقبّل الحقيقة يعني أن تضحّي؛ وإذا كنت قد رفضت الحقيقة لفترة طويلة من الزمان، فأنت بذلك تثقل عاتقك بدين كبير من التضحيات المتراكمة على نحو خطير». جوردان بيترسون من الكتاب ذاته.

يتطلب النموُّ النقصَ أحيانا؛ فكي تدرك معنى الشبع، لا بد أن تجوع، ولن يدرك قيمة الماء المهدور إلا من أصابه الظمأ. ولأننا في رمضان، فحري بنا أن نكون صادقين في مواجهة أنفسنا والعالم على السواء، فنتحرى بتلك المكاشفة مع الذات مكانتنا الحقيقية في مقام التجرُّد من الزيف. ومن كتب الماتعة، الجزء السادس والثلاثون من «موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية» الصادرة عن دار رواح للنشر والتوزيع، ومنها أقتبس بيت المعرّي الذي ورد في لزومياته:

أصدِّقُ وعدِي والوعيدَ كليهما

ولا خيرَ فيمن لا يُرى صادِقَ الوَعْدِ

لم يتبق على انقضاء الشهر الفضيل سوى أيام معدودة، وما لا يدرك كله لا يترك جله، أيامٍ يستطيع المرء فيها التقاط أنفاسه ومراجعة نفسه وذاته، لأن ماراثون الحياة بعد رمضان؛ يتطلب جهدًا مضاعفًا ونيَّةً صادقة لا يفلّها الحديد. وإذا كان العمر يقاس بالأعوام، فإن الحياة الحقيقية تقاس بما فيها من صدق، فأن تختار ما تؤمن به، وكيف تعيش، وماذا تلبس وتأكل وتركب، لأجلك لا لأجل الآخرين؛ هي البداية الحقيقية لسلوك الحياة المتجردة من الأوهام، والعيش في اطمئنان وسلام.