مقامات: في مدح الكسل

26 سبتمبر 2021
26 سبتمبر 2021

أنهيت قبل فترة وجيزة كتاب "في مدح الكسل ومقالات أخرى" للفيلسوف والمفكر والكاتب بيرتراند رسل، الصادر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة في ٢٠٠٩ ، بترجمة رمسيس عوض .

الكتاب الذي يغري بالقراءة من العنوان يتناول في -المقال الأهم والذي عنون به الكتاب- الدعوة المباشرة والصريحة للكسل وامتداحه، وذم كثرة العمل؛ حيث يعرض رسل في مقاله "الإشكالي بكل تأكيد" محاولة دحض للرؤية الشعبوية العامة حول تمجيد العمل وربطه في الضمير الجمعي بالقدسية والرفعة الأخلاقية من خلال مقولة مثل "اليد البطّالة نجسة" والذي يقول رسل نفسه أنها كانت مستقرة في ضميره الذي يحرك كل دوافعه وأعماله غالبا.

ولكنه لاحقا إذ بدأ يحلل الكثير من الأفكار الجاهزة اتضح له بطلانها واختلالها وضرورة دحضها، ومن ذلك؛ أن سلسلة العمل هي ضرورة اجتماعية لتوفير لقمة العيش للجميع، وأن إنفاق المال هو مساعدة للآخرين حتى لو كان الأمر يتعلق بأبشع وأقبح الأحوال التي ننفق المال فيها.

ويؤكد رسل إيمانه بأهمية الكسل وعدم ضرورة الكثير من العمل فيقول؛ "وأنا أريد أن أقول في جدية تامة أن العالم الحديث يصيبه الكثير من الأذى نتيجة الاعتقاد في فضيلة العمل، وأن السبيل إلى السعادة والرفاهية ينحصر في الإقلال المنظم في العمل"، ويرى رسل أنه تم استغلال الإنسان استغلالا بشعا بكل المقاييس من الفكر الرأسمالي، وأصحاب رؤوس الأموال والدول في العصر الحديث؛ حيث عمدت إلى إعلاء قيمة الجهد، وتفريغ حياة الإنسان من كل متعة وجمالية، وأن كثيرا من الجهد في العمل كان يمكن أن يوزع على الجميع، ليحظوا بعمل مريح ودخل مناسب ووقت فائض من أجل الرفاهية والمتعة، ذلك الفراغ الذي يتيح المجال للتفكير والفن والجمال.

ويؤكد "رسل" على ضرورة استغلال العلم في تقليل جهد الإنسان، وتعبه في مقابل منحه بعض الوقت للراحة، ولكن ما حدث عكس ذلك تماما حيث تم استغلال وسائل العلم الحديث لصالح رأس المال وضد الإنسان، فمثلا العمل في المصانع الذي تستخدم الوسائل العلمية الحديثة، تم استخدام قلة يعملون لساعات طويلة، وتم وتسريح آخرين؛ بدل إفساح مجال العمل للجميع في وقت قليل وإعطائهم الراحة في الوقت المتبقي "فوسائل العلم الحديثة من شأنها أن تجعل الفراغ-في حدود-حكرا تنفرد به طبقات ضئيلة العدد وتنعم بامتيازاته، بدل أن تجعل منه حقا يعطى بالتساوي لأفراد المجتمع... وأخلاقيات العمل هي أخلاقيات العبيد ولا حاجة للعالم الحديث إلى نظام العبيد" ص 24، مؤكدا على فكرة عظيمة وهي أن "الفراغ ضرورة للحضارة"25.

وينتقد "رسل" بشدة فكرة واجبية العمل مع عدم الحاجة إليه، وإضفاء الصبغة المقدسة عليها، واعتبار العمل فضيلة وشرفا يتناسب طرديا مع الجهد والتعب في كل وظيفة، ويوضح حقيقة أن وجود البطالة لدى عدد كبير من أفراد المجتمع؛ يكون نتيجة حتمية ومباشرة جدا لوجود عدد من الموظفين الذين يرزحون تحت وطأة العمل المرهق والوظيفة الذي تثقل كاهل الإنسان وتحرمه من لذة الحياة تماما، بدلا من الموازنة العادلة، وتحقيق الفراغ الذي يكون مصدرا عميقا للسعادة، وبطلان "فكرة أن يكد الإنسان أو أن يموت جوعا"، ثم ينتقل لفكرة أن إعلاء قيمة العمل بهذه الصورة يجعل الفراغ يتحول لدى البعض لفكرة موحشة ومفسدة لأن الإنسان لا يعرف كيف يستغلها، وهو أمر أحدثته الرأسمالية الجشعة ورجال الأعمال وسوقوه ليكون فكرة راسخة وماهي في حقيقتها إلا فكرة استغلالية فقط. "يجب الإقرار بأن الاستغلال الحكيم للفراغ هو نتاج المدنية والتعليم وأن الإنسان الذي اعتاد على العمل ساعات طويلة يصيبه الملل لو أنه أصبح متعطلا بين يوم وليلة ولكن بدون جانب من الفراغ يجد الإنسان نفسه محروما من الكثير من أطايب هذه الحياة، ولم يعد داع لكي يعاني غالبية الناس من هذا الحرمان والتقشف السخيف الذي يحمل طابع التضحية، يجعلنا عادة نستمر في الإصرار على العمل بكميات ضخمة" 28

ثم يعرج على العنصرية الضمنية ضد المرأة في فكرة العمل، حيث لا ينظر أغلب أصحاب رؤوس الأموال لضرورة عمل المرأة، مرددين أن العمل يفسد طهارة المرأة ورقتها؛ حتى ثارت الحركات النسوية على النظر للمرأة من هذا الجانب، وخلخلت فكرة قداسة المرأة التي تجعل منها منحنية ومحتاجة للرجل، وأظهرت أنها يمكن أن تتمتع بالقوة التي تجعلها تعمل أيضا.

ورسل يؤكد على قيمة الفراغ وضرورته ويوضح أن تقليل قيمة العمل لا يعني صرف الوقت في التفاهات، بل حصول الإنسان على ما يسعده في أي نظام اجتماعي، فالعمل الطويل قد حرم الإنسانية كثيرا من القيم الاجتماعية، ورسّخ قيم المدنية المادية الجامدة لأنه فعليا لا وقت لذلك. "فالعمل استنفد طاقاتهم الإيجابية تماما، ولو كان لديهم فراغ أكبر لاستمتعوا بلذات يشتركون فيها اشتراكا إيجابيا". ص33

ويرى رسل أن الجامعات يمكن أن تمدنا بقيمة الفراغ وكيفية استغلاله كما حدث قديما عند أهل الريف، وطبقات الأغنياء لولا أن "مشكلات الناس ومشاغلهم تغيب عن أذهان الرجال الذين يعيشون في وسط أكاديمي، أضف إلى ذلك أن الطرق التي يعرب بها هؤلاء الأكاديميون عن أنفسهم لا تسمح لآرائهم في العادة أن تؤثّر في الجمهور العام كما ينبغي ... الخ"

ولذلك فهو يؤكد على أن العمل لمدة لا تزيد عن أربع ساعات يوفر الفراغ والطاقة للعالم والأكاديمي، وللفنان، وللكاتب، ولرجل الاقتصاد، وللطبيب، الوقت الكافي للبحث والتأمل والتفكير والقراءة "وفوق كل ذلك ستعم السعادة وفرحة الحياة بدلا من الأعصاب المتوترة، والإرهاق وعسر الهضم"35، السعادة التي ستجعل الناس أكثر سلاما وقناعة وبلا حروب نفسية وحسد وأحقاد دفينة للآخرين، " غير أننا اخترنا لأنفسنا الإرهاق للبعض والتضور جوعا للبعض الآخر ... لقد كنا أغبياء في ذلك وليس هناك داع للإصرار على غباوتنا للأبد". 35 .

ولذا ما أن تفرغ من قراءة هذا المقال حتى تشعر بصدمة في الوعي الإنساني الضروري للتعامل مع كل شيء، وتراجع ما تعيش ضمنه من أفكار ومن حياة عملية، وتدرك أنه كم تحتاج مؤسساتنا العلمية والفنية والإدارية إلى النظر في كل نظمها، وكم نحتاج إلى الوعي في مراجعة أولوياتنا الفكرية والعلمية والوظيفية، وأن أنسنة الوظيفة هي الصورة الجديدة التي عليها أن تحل بدل اضطهاد الوظيفة السائد منذ زمن طويل، وإن إنسانية المسؤول يجب أن تكون قيمة عليا بدل أن يجعل من نفسه سلطة فوقية آمرة، بل أن فكرة - أنسنة المؤسسة وإنسانية الموظف- يجب أن تدرس وتدّرس لكل من يجلس على كرسي ما؛ ليجعل من العمل قيمة إنسانية، وفكرة تتجدد مع الوقت لتناسب حاجة الإنسان والعصر.

جدير بالذكر أن الكتاب الذي يستحق بجدارة أن يقرأ ويناقش ويطبق؛ يحوي مقدمة موسعة عن رسل ونشأته والمؤثرات التي أثرت في حياته وفكره، وكتاباته ناقدا أدبيا وقاصا فنيا تشرب الحكمة ونهل من معين الفكر، ومقالا موسعا آخر دفاعا عن عالم الديمقراطية، وجزءا يتناول عظماء/أصدقاء في حياة رسل الكاتب والإنسان.