مقامات القصة : الخيال (بين السردي والشعري)

21 يونيو 2021
21 يونيو 2021

الخيال بؤرة أي عمل أدبي، محايثا وممازجا له، فكأنما الواقع الذي نعيش، لا يمكن أن يسبك أدبيا بدون تدخل خيوط الخيال. فحين يصف الأديب سحابة تراها عينه تبرق في السماء، فإنه يصفها أدبيا كأنما يراها بعين أخرى، هي عين الخيال، التي ستحرك كل صورة جامدة. فهو سوف يضيف إلى تلك السحابة ـ بواسطة هذه العين ـ سربا من الطيور، أو قوس قزح. وهذا هو الخيال في معناه الأولي البسيط، أما في معناه المركب، فالخيال يخرج من حيز التأمل الذاتي إلى مساحة أوسع. فعند الشعراء غالبا ما يتدخل الخيال بواسطة عدة بلاغية (أدوات التشبيه والاستعارات) لإضفاء مسحة شعورية بإدماج عناصر جديدة على مشهد طبيعي ينطلق من ذات الشاعر. سيصف الشاعر مشهدا يتحرك أمامه بصدق وانسجام، ولكن شعوره الذاتي، أو ذلك الوقع المؤثر الذي يضفيه ويخلعه على مشهد عابر، يجعله مؤبدا في اللحظة والزمن. يصف سليم بركات الصرخة بأنها " قبضة باب من نيكل" هنا استعار صفات لمعدن النيكل اللامع للإبلاغ في وصف صرخة. هذه الاستعارة هي في الأساس تركيب خيالي على لحظة منظورة أو شعور محسوس. طفل يبكي فزعا، إنها من السطوع والوضوح أن استدعت في خياله قبضة باب ساطع كصرخة، أو صرخة بشرية كقبضة معدن.

أما في القصة - وأنواع السرد عموما - يكون هذا التركيب موضوعيا، ومباشرا. فذات الشاعر التي خلعت صفات المعدن على صرخة ستكون عند السارد منقوصة إلى الفعل. قد يكون وصف الطفل الذي يصرخ هو الأساس في رسم صورة سردية مكتملة، لن يكون الشعور هو الأساس، إنما المشهد كاملا ومجردا.

حين يصف الشاعر أدونيس مدينته دمشق بالقول " أيتها الطريدة المليئة الساقين" فإن ما خلعته ذات الشاعر هنا يغني عن أي شرح. لا تحتاج الصورة إلى إضافات بقدر ما تحتاج إلى توسيع عملية التأويل. فنحن أمام طريدة ولكنها مليئة الساقين، لابد أن شعورا يمتزج هنا بالفتنة والذعر. لم يقل يا غزالا إنما طريدة، لتددل مباشرة على الذعر والهلع، ومليئة الساقين لتدلل على الجمال والاكتمال. فالمشهد هنا غير مبتور، إنما على النقيض من ذلك؛ مكتمل. بل يفيض بمعاني جديدة وتأويلات متعددة رغم قلة عدد كلماته. هذا في الشعر، أما في السرد والقصة بصورة خاصة ، يستلم الوصف زمام الحالة ويذهب بها نحو التفاعل والاكتمال. وهذا أحيانا لا يتم إلا بتدخل عناصر كثيرة،مثل الحبكة والصراع وحتى الحوار بنوعيه الخارجي (الديالوجي) والداخلي (المنولوجي)، وذلك بغرض إيصال المعنى. فحين كتب يوسف إدريس قصته القصيرة " نظرة" التي تدور فكرتها حول فتاة صغيرة كانت تحمل صينية بطاطس من الفرن وتمشي في السوق، طفلة تعمل كخادمة. ولكن حين يصل الوصف البطيء إلى مشهد أطفال يلعبون، تتوقف الطفلة لحظة – يتحول هنا الوصف إلى فعل- تلقي عليهم "نظرة طويلة ثم ابتلعتها الحارة" هي هذه الكلمة الأخيرة تحديدا في هذه القصة. ولكنها مثل التوقيع الذي يلخص فيه الكاتب المعنى كاملا، وهو ما حمله عنوان القصة في البداية (النظرة) ولكن المعنى لم يتجلى ويسفر عن نفسه إلا في النهاية.

وكأنما السطر الأخير والكلمة الأخيرة البوتقة التي وضع فيهل الكاتب خلاصة قصته. ستشعر بالفرق والفهم، وينجلي كل لبس ما أن تصل إلى الكلمة الأخيرة.

وإن كنت ستعيش القصة في كل سطر فيها، فإن المعنى هنا يتكون -أثناء القراءة- ببطء شديد، ولا يحتاج منك إلى تأويل مجتزأ ـ كما هو الحال مع الشعر ـ إنما الكاتب يقدم لك خريطة تقودك مع كل كلمة وجملة إلى المعنى الذي أراد إيصاله، على أن تظل الرسالة في عمومها - مع السرد والشعر- مفتوحة ولانهائية، وإلا لما سمي الأدب أدبا. فالأدب البليغ يمتلك قدرة لا نفاد لها على التأويل، ومن هنا منطلق راهنيته. إبداعات قاومت عوادي الزمن لتصل إلينا جديدة في كل مرة. تقرأ الآن المتنبي كأنك تقرأه من جديد، وذلك لأنك في كل مرة تكتشف معناك الخاص. وحتى هذه اللحظة؛ الحيرة قائمة حول إن كان يقصد القلق أم الحصان في قوله " على قلق كأن الريح تحتي". وهل نجيب محفوظ في رواية "زقاق المدق" كان يرسم فقط ذلك الزقاق الضيق المحدود أم جميع الأزقة والحارات. وعلى ذكر رواية زقاق المدق فإن القاص يوسف الشاروني كتب مرة قصة انطلاقا من هذه الرواية، ولكن العجيب أن صانع العاهات "عيطة" ،الذي هو أحد ابتكارات نجيب محفوظ في روايته المذكورة ،رسم له خيال الشاروني - في قصته التي حاكت هذه الرواية - تمثالا في نهاية الزقاق وذلك تقديرا له لأنه كان يوفر العمل للناس! و هو أمر لا يمكن أن يحصل لولا تدخل الخيال، بل إن الخيال هنا يتدخل ليرسم أبعادا جديدة، إنه خيال مبني على مثال خيال سابق، ولكنه استطاع أن يشق طريقه الخاص.