مسقط بوصفها نصا

28 مايو 2022
28 مايو 2022

في البحث اللجوج عن المكان بحثٌ عن الذات الضائعة فيه، عن الذات القديمة التي تتجول منذ عصور بلا نص يوثقها ويدون سيرتها في سيرة الوقت الذي يتقادم في ملامح كل ساكن ومتحرك. هكذا أبحث عن مسقط، عن المدينة غير المكتوبة حتى اللحظة إلا بطريقة سياحية جعلت من أزقة مطرح وسوقها اختزالًا ثقافيًا مكثفًا يروق لهواة تجميع الصور التذكارية حول مدن العالم، تمامًا كما فعلت قصيدة سيف الرحبي "قصيدة حب إلى مطرح" التي كانت مدخلنا الأول إلى المدينة بوصفها نصًا، ونحن تلاميذ على مقاعد حصة اللغة العربية:

"كم من القراصنة سفحوا أمجادهم

على شواطئك

المكتظة بنزيف الغربان

كم من التجار والغزاة

عبروك في الحُلم...".

غير أن النمو السكاني وما واكبه من اتساع في البنية الأساسية لمؤسسات الدولة، منذ مطلع الألفية الجديدة، قد فرض على مسقط أن تتمرد على طوقها الحجري الحصين، لتتمدد العاصمة أكثر على شطآن بحر عُمان، ومن هنا، كان على مسقط الكبرى (المحافَظة) أن تعثر على جغرافيتها الجديدة في النص، وأن ينشغل كُتَّابها بإعادة تموضعها الجديد على خريطة الوطن بفعل الكتابة، ولكن من غير أن يُزج بها في صور شمولية تلغي خصوصية مدنها الصغرى، فالمدن وهي أماكن انعكاس لموهبة الإنسان، ولن تعثر على شخصيتها الحية بفضل التقسيمات الإدارية وحدها التي تحولها إلى "ولايات"، بل بالنصوص التي تستنطقها ثم تدونها في ذاكرة الناس.

تبدو مسقط كمدينة جديدة احتمال كتابة مغوٍ ومعلق. وما من فرد أو مؤسسة حتى الآن تستطيع الادعاء بأنها تمثل المرجعية الأدبية والتاريخية لها، وهذا ما يجعل منها مُرحبةً بالتجريب ولا تقصي رواية أحد، الأمر الذي قد لا يشعر به رواد المكتبة العربية في علاقاتهم الأدبية مع أماكن ومدن شتى، قريبة وبعيدة، تلك المدن التي حمَّلتها النصوص المتوالدة بعراقة ثقافية، فهي مطروقة على الدوام إلى الحد الذي أصبحت فيه عصية الاستجابة والتفاعل مع أي محاولة كتابية جديدة تنقر تفاصيلها المأهولة بالكلمات. ففي جغرافيَّة الأدب العربي المعاصر نعثر كثيرًا على القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد، حواضر الثقافة العربية في القرن العشرين، التي أصبحت محاولة التعبير الجديدة عنها تميل نحو الوفاء للماضي في خيانة للواقع السياسي المؤجل والمسكوت عنه. لا يمكن للسائح الثقافي أن يقرأ عن هذه المدن إلا تحت إشعاع صورتها النمطية التي تمتعت بها على مدار عقد كامل في المخيال الثقافي العربي، مهما جرَّها سياق التاريخ القلق إلى تبديل هويتها القومية وملامحها المعمارية مع تغير واضح في موقعها السياسي بين عواصم العالم. ولطالما كانت الصورة النمطية لتلك العواصم "التقليدية" قهرية إلى أبعد الحدود في الذاكرة العربية إلى درجة يمكن فيها الحديث عن تبلور نوع جديد من الاستشراق الشرقي، تمارسه المدن المركزية في الثقافة العربية على مدن الهامش في الخليج والمغرب العربي، لكن هول المأساة العربية التي شهدها الإنسان والمكان في العقدين الأخيرين، وما جرته التجربة السياسية المعاصرة من تغيرات كبيرة على العلاقة بين الفرد ومكانه الحيوي، أدت هذه المأساة المستمرة إلى حركة هجرة معنوية ومادية نتج عنها تبدل مراكز الثقافة العربية بين العواصم، حتى لو لم يحظ هذا التحول باعتراف عربي واضح، فها نحن ندخل في زمن عربي جديد ومفتوح تتبوأ فيه مدن كدبي والرياض والدوحة مراكز صناعة الفن والإعلام الموصومين بختم عربي، بينما نقرأ مسقط كمدينة جديدة تقف على الحياد في المخيلة العربية، مشروع كتابة مفتوح لإعادة هندسة المكان على الورق.

أما أنا فهل أستطيع القول إن مسقط أصبحت مدينتي؟ هل هناك من يستطيع قول ذلك عنها اليوم؟ من الداخل تبدو لي العاصمة وكأنها مدينة الجميع التي لا تخص أحدًا بالقربى، ومن الخارج أرى بأننا جميعًا بمختلف أطيافنا ضيوف عليها، موظفين غالبا، طلابا أو رواد مقاهٍ. وبالنسبة لتجربتي الشعرية فإن السؤال عن شكل العلاقة بالمكان يشبه لحظة السؤال عن شكل العلاقة العاطفية التي استمرأت طويلاً وجودها بلا تسمية، والأملُ بإجابة شافية حول شكل العلاقة بالمكان هو أمل في توطين اللغة على أرض ثابتة تحت القدمين، قبل أن تنطلق منها بشكل مطمئن في تجريب السفر الحر نحو فضاءات أرحب داخل الكتابة، فلا يمكن للغة الشعرية أن تزدهر في غياب الأرض التي تشدها بخيط رفيع من الحنين وتغذي عناصرها الأولية.

وللمدينة أسلوبها الخاص في صناعة الذكريات كمادة خام لتدوين سيرة المكان، لا يشبه أسلوب القرية التي تربي الذكريات مع عناصر المكان ببطء شديد، فتحت الإيقاع المتسارع للحياة المدنية، بأعبائها الوظيفية التي لا تنتهي، يشعر المرء بأنه يعيش ضمن مسلسل من الحاضر المتصل بصرامة، بلا فجوات أو فواصل لالتقاط الذكرى، هنا اكتشفت أنني أفعل ما يفعله آخرون غيري في علاقتهم بمسقط لمعالجة الآثار النفسية المضنية نتيجة لهذا التواصل المزمن مع المدينة التي لا تعترف إلا بذبذبات حاضرها، فكنت ألجأ لحيلة الانقطاع إلى القرية قبل أن أعود لاستئناف حاضري في المدينة وقد صار بوسعي أن أراقب عن كثب وجود ماضٍ شخصيّ لي يحوّم حول المكان، ومن ذلك الماضي الشخصي الصغير يبدأ الدخول في مسقط بوصفها نصا.