ماجد الندابي بين «خيول من الرمل» و«الراعي»

05 فبراير 2024
قطوف من الإبداعات الشبابية «2»:
05 فبراير 2024

أعود مرة أخرى لنصوص الملتقيات الأدبية التي تنظمها وزارة الثقافة والرياضة والشباب، وهذه المرة أقف مع شاعر شارك في أكثر من ملتقى أدبي، هو الشاعر ماجد الندابي الذي يُعد واحدا من الشعراء الشباب، الذين انطلقوا بحيوية الشباب في كتابة القصيدة العمودية، مازجين بين تقليدية الشكل وبين ثورة التجديد اللغوي، حتى صار واحدا من الشعراء الذين اتجهوا بالقصيدة جهة الجمال الشعري وأوديته السحيقة، مازجا بين دلالات الكلمة الشعرية، وبين نغمة الموسيقى الشعرية وإيقاعاتها.

استمعت إلى نصوص ماجد الندابي في غير موضع ولعلني هنا أقف على نصين شارك بهما في ملتقيين متتاليين؛ النص الأول بعنوان (خيول من الرمل) حاز به على المركز الثالث في مسابقة الملتقى الأدبي الثالث عشر عام 2007م بولاية خصب، والنص الثاني بعنوان (الراعي) الحاصل على المركز الرابع في المسابقة نفسها عام 2008م بصلالة. وكلا النصين يختلفان في كتابتهما الشكلية ورؤيتهما الداخلية والاشتغال المتطور، لذا كان من الجيد تسليط الضوء على شاعر انطلق بصورة جيدة لكن وعلى ما يبدو فإن الحياة الصحفية قد أخذته إلى دهاليزها حتى لم نعد نقرأ أشعاره، وكأن التجربة الإعلامية قد أخذت جل وقته وأبعدته عن مسارات الشعر.

تبدأ قصيدة (خيولٌ من الرمل) وهي من شعر التفعيلة اشتغالها بالحديث عن البعثرة والتشظي؛ فاللغة على امتدادها الزمني متشبّثة بخيوط العنكبوت. يتقدّم النص في دلالاته كونه بوابةً مُشرعة على الزمن القاتم والمرعب دون وجود دلالات موحية يتمسك بها النص. والنقطة الهلامية التي يبدأ منها الشاعر حروفه مسكونة بالخوف من المجهول، ولعلها كانت بداية يقتنصها النص ليعبر منها إلى مسارات مختلفة في تأويل لغته وفكرته.

لكن النص يأخذ القارئ معه في مقطعه الثاني إلى دلالات: التشرد والسراب التي يعيد اقترانهما بالزمن، فماذا يمكن أن نصف الزمن وهو مشبعٌ بالخوف والقلق والتشرد والتشظي؟

ينبني نص (خيول من الرمل) على الحركة الزمنية القائمة على الحركة العشوائية من الماضي إلى الحاضر وإلى الماضي وهكذا، لذا فإنّ بعثرة المقاطع الأولى، وتشظي الزمن ودلالاتهما نابعة من فكرة الحركة الزمنية التي يقصدها الشاعر، محاولا الولوج من خلالها إلى عوالم التأويل الشعرية محتميا باللغة التي هي الأخرى تتكئ على دلالات الغربة والانكسار والهزيمة كما في المقاطع الأولى:

ينسج العنكبوتُ الخيوط

على لغتي

كالزمنْ

وأنا واقف أتشظى

لكي أنجز الحرف

فليت الحروف

تموتُ

ولا تمتهنْ

وخيول من الرمل

تسبح ملء الجهات التي شردتنا

كي تعيد السراب

إلى خشبات المسارح

عند اجتماع الحروف بمعتقها

في رصيف الزمنْ

نعم عابرون..

وهل لحذاء عباراتنا

من رنين سيبقى

يردده العازفون على وتر

من شجنْ

ألنا شارع

لا يؤدي إلى بيتنا

فالشوارع كالإخطبوط

تمد أذارعها كي تكون دليل المتاهة

إثر انهزام الخرائط في لغتي

وأنا ألتوي ألتوي ألتوي

كي أكون انحناء بسيطا

بهذا الوجودْ

إنّ القصيدة قائمة على الوجع ودلالاته وانكساراته، هكذا تنفح معاني النص، وهكذا يكرّر الشاعر مفرداته مرة إثر أخرى، فلا نكاد نلمح المغايرة رغم اتساع النص، فتظهر الكلمة المفتاحية في كل مقطع معبّرة عن الخوف من السقوط، والانكسار الذي يؤدي إلى انكسار المرايا التي هي وجوه متعددة في أصل الحياة التي نعيشها.

يقوم النص على مشاهد مقتنصة من الحياة، ويعبر عنها الندابي بلغة الوجع لأنها أكثر رسوخا وثباتا في الذاكرة، فإنه حين يقول:

لماذا طردت العنادلَ

من جنةٍ لن تكونَ

وألبستهمْ

أكاليل غارٍ

وصفَّقتِ الريحُ من خلفهمْ.

فإنه يقدّم صورة حيّة لما يمكن أن يشاهده ويعبّر عنه، إنه يحاول الخروج من اللغة الوصفية التي تصف فقط، إلى اشتغاله الواضح على دلالات التخيل والاكتناز اللغوي. هذا التعبير نجده في مقطع آخر إذ يقول:

حياتك قلقلة في فم الريح

فاطوِ خيامك وارحل بها

فليس لك اليوم أن لا تكون

وكن واقعا ليس إلا

لا تكلف فؤادك ما لا يطيقْ

فالمضيئون يحترقونْ

إن الخطيئة قد تكون في كونك شاعرا، فالخيول المتحركة قد ارتدت عباءة الشعر والكلمات هي من رمل، هكذا يتلبّس الشاعر بالحركة الشعورية والشعرية، وهكذا يتحدث عندما تهجره الكلمات:

طردتك يا شعر

فاستجدني كي أقولك

العق جراحي

فإن لم تكن

كأبابيل هذا المساء

فلن يصطفيك المساء.

في قصيدته (الراعي) المشاركة في الملتقى الأدبي الرابع عشر بصلالة، ينطلق الندابي من كونه راعيا يهيم في الملكوت والصحاري، ويحاول أن يحرر اللغة من قيودها العتيقة مانحا إياها دلالات الحركة المكانية، واتساعا في التعبير الشعري.

يعود بي هذا النص إلى القصيدة التائية لأبي مسلم البهلاني:

طنّبتُ في الوادي المقدس خيمتي ورعيتُ بين شعوبه أغنامي

حين منح أبو مسلم كلماته الحرية الكبيرة في أخذ القارئ إلى مواطن التخيّل الشعري، لذا فإن مهمة الراعي هنا هي رعي الأفكار والسير بها إلى مواطن الشعور والإحساس، لذا يُقدم الشاعر نفسه بالكيفية ذاتها التي قدّم البهلاني نفسه بها وصولا إلى المعارج السماوية التي يسبح فيها العارفون:

قدرٌ هي الصحراءُ أنْ تثبا

ومهمتي أن أحلب السُحُــبا

راعٍ أنـا أرعى بلا غـنــمٍ

هذي النجوم وأوقدُ الشـهبـا

تجترّني كالصـبح أغـنيـةٌ

وأنـا أجــرُّ الغــيمَ مُنسكـبـا

وحدود مملكتي يُسـيّجهـا

هذا الضبابُ الضاربُ الحُجُبا

أطلقتُ في الصحراء قافلتي

ومضيتُ لا أبغي لها طلبـا

فلقـد تمــــــرُّ بأيّ زاويـةٍ

والله يُرجعـهــا إذا رغـبــا

هذا الصدى صوتٌ به انكسرت

كلُّ الجهات فعاد منتحبا

الراعي هو عارف آخر، ربما يكون الشعر ميدانه، أو السحر فنه، أو العرفان روضته. إن اللغة التي كتب بها الندابي نصه منفتحة على الرؤى الساحرة لمكنونات النفس البشرية، بها شيء من تصوف أبي مسلم وعرفانيته، تقوم الدلالات بالولوج إلى المخيلة الشعرية مشكّلة انكسارا في توالد الصورة واتساعها على معاني أخرى في النص، يقول:

عبرتْ بوادي الجن أحصنتي

والصخرُ يقدح تحتها اللهبا

وأنا على سرج الرياح ترى

طيفي من الأشجار منسربا

فأنــا مع الأشــياء متحــدٌ

هل تفصلون النار والحطبا

والجن حولي خلف أخيلتي

وسهامهم تصطاد ما هربا

وعصاي في كفي أهش بها

سربَ الرؤى مِن بعد ما شربا

إن لغة أبي مسلم البهلاني في تائيته حاضرة هنا، يستفيد الشاعر من معانيها الداخلية مقدّما نصا يمزج فيه بين رؤية الشاعر ورؤيا المتصوف. لقد استفاد ماجد الندابي من شاعريته كما استفاد من اتساع اللغة في تقديم نصوص شعرية تمزج بين التجربة التقليدية والتجربة الإبداعية الحديثة، فكان الندابي واحدا من الشعراء الذين شقوا الطريق إلى ذرى الشعر قبل أن يختفي تاركا وراءه أثرا يدل على شاعريته.