«ليت أسماء تعرف!»

03 مايو 2023
03 مايو 2023

«ما رسخ في ذهني بشكل قوي، هو ما تبقى من صور الحادثة التي أودت بحياته في أبريل ١٩٨١، كنت في الرابعة والنصف من عمري، أذكر انقلاب السيارة التي كانت تقودها سيدة كندية تدعى إليزبيث، كنت أجلس بجواره على المقعد الأمامي في السيارة وفجأة أخذ حزام الأمان وأحاطني به وحدي».

هذا ما قالته أسماء يحيى الطاهر عبدالله، واصفة ما حدث في الرحلة الأخيرة التي قام بها أبوها إلى الواحات البحرية، برفقة بعض الأصدقاء وابنته الصغيرة أسماء.

تعرفت على يحيى الطاهر عبدالله من خلال «تتر» المقدمة لفيلم الطوق والأسورة، الذي أخرجه خيري بارة ومثلته شيريهان وفردوس عبدالحميد وعزت العلايلي، الفيلم الذي وشم ذاكرتي بقسوة مدهشة، فسعيت في طلب أعماله.

لم نكن نعرف جوجل حينها وبطبيعة الحال لا تتوفر نسخ بي دي أف، لكن كان هناك أصدقاء نسألهم فيجودون، ولأيام طويلة جلست لاستكشاف عوالم يحيى الطاهر عبدالله، كتابته التي تعيد الاشتغال بشكل خاص على التراث الشفهي، عالم يخلق غرائبيته الخاصة وينضج قسوته التي تغلف حكاياته.

هكذا أصبحت مولعة بكاتب حي جدا وبعيد جدا، يحفظ نصوصه القصصية، ويلقيها على مستمعيه غيبا، قاص يرى في المشافهة وسيلة البسطاء لمعرفة الكلام، فالبسطاء ليسوا صما وإن لم يعرفوا القراءة والكتابة، وكان يقول إنه إذا قال وأجاد القول سيجد من يسمعه ويتأثر به.

كان رافضا لفكرة نخبوية الأدب، أو «بمخاطبة المثقفين، أو الاقتصار عليهم، فما معنى أن يكتب برجوازي صغير لحفنة صغيرة من أمثاله» بحسب ما أورده الدكتور جابر عصفور في تقديمه لمجموعة أعماله الصادرة عن دار العين في طبعة ثالثة عام 2005، فهو ابن الصعيد الجواني ابن الكرنك والأقصر، والناس البسطاء الأميين في غالبهم.

«ليت أسماء تعرف أن أباها صعد

لم يمت

هل يموت الذي يحيى

كأن الحياة أبد

وكأن الشراب نفد

وكأن البنات الجميلات يمشين

فوق الزبد

عاش منتصبا بينما

ينحني القلب ليبحث عما فقد»

يكتب أمل دنقل قصيدته الجنوبي ليطبطب على قلب أسماء الصغيرة، لتعرف أن أباها علامة فارقة في تاريخ الأدب، ليخبرها أنه لم يمت، من يكتب لا يموت، أليس كذلك؟

أسماء لا تعرف ذلك، لكنها تذكر أباها نائما على رمل الصحراء والدم ينفر من فمه وأنفه، تذكر سيارة الإسعاف والمستشفى، وصوت أحدهم يقول: «حيصحى تاني ويرجع لك»، لكنه لا يعود.

أخبرتها أمها أنه كان كاتبا مهما، وأنها كانت لا تفترق عنه، لكن صوته تلاشى من ذاكرتها، حتى زارهم صديق له كان قد احتفظ بإحدى جلساته مسجلة على شريط، كان يحيى يروي حكاياته التي يحفظها، ويتلوها غيبا، هكذا استمعت أسماء لصوت أبيها لأول مرة بعد غيابه، وبالصوت بدأت صورته في الالتئام.

كبرت أسماء كثيرا منذ ذلك الوقت، وصارت تعرف أن أباها لن يعود، لكنها تعرف أكثر أنه لم يمت.