لماذا نحتفل بدوستويفسكي؟

22 نوفمبر 2021
22 نوفمبر 2021

قبل أيام احتفل العالم بمرور مئتي سنة على مولد الكاتب الروسي "فيودور دوستويفسكي". حيث نظمت فعاليات متفرقة شملت ربوعا مختلفة من العالم. والسبب أن هذا الكاتب الكبير كان ملهما وما زال لكثير من الكتاب، فلا يوجد كاتب عالمي أو عربي ليس فيه شيء من دوستويفسكي. بل تجاوز تأثيره الأدب إلى الفيزياء والطب.

نذكر مثلا تأثيره على عالم الرياضيات "أنشتاين" باعترافه حين قرأ رواياته، كما نذكر تأثيره الكبير في علماء النفس. والسبب أن رواياته تغوص في خلجات النفس البشرية وتأتي لنا – من ذلك العالم الغائر- بما لا يمكن توقعه. بل إن هناك نقادا ابتكروا مصطلحات نقدية انطلاقا من رواياته كما فعل الناقد العالمي باختين في كتابه "شعرية دستويفكسي" ويقصد بالشعرية هنا (السردية) أو ما أطلق عليه أرسطو بالبويطيقا.

كاتب أمريكي حاز على جائزة نوبل وهو "وليم فوكنر"، كان يخصص فترة من كل عام لقراءة مجمل أعمال دوستويفسكي. ومرة في موسكو كنت في حديث مع مستشرقة روسية حين قالت لي إن مبيعات كتب دوستويفسكي الذي عاش معظم حياته وهو في حاجة إلى المال، تصل إلى مليارات الدولارات في أنحاء العالم.

لا شك، فنحن حتى هذه الساعة نقتني مؤلفاته و بلا توقف، وبشغف متجدد. أتذكر أني منذ فترة بسيطة كنت في المغرب، وقد اقتنيت مجموعة من الكتب وكان منها كتاب لم أسمع عنه من قبل لدوستويفسكي وهو رواية "حلم العم" وقد بدأت بقراءتها أولا، وسعدت أنها بترجمة مباشرة من الروسية، وليست عن الفرنسية كما فعل الدكتور سامي الدروبي، رغم أن ترجماته بديعة ولكنها تظل منقولة من لغة وسيطة وليس عن لغتها الأصلية، ولذلك لا بد أن يكون ثمة فرق.

الجميل في هذه الرواية القصيرة نسبيا مقارنة بأعماله الضخمة كـ "الجريمة والعقاب" و"الأخوة كارامازوف" و"الأبله والشياطين"، أنها في غاية الطرافة، بحيث كل من يبدأ بها لا يمكنه أن يتركها وهو في كل ذلك يحرك مشاعره بين الدهشة والضحك والاستغراب. وهو كما في جل رواياته نابش خطير لأكثر أسرار النفس البشرية غورا وعتمة. ومن يقرأ روايته "المقامر" وهي رواية كتبها دوستويفسكي في أيام قليلة حين كان محتاجا للمال لأنه كان يعيل عائلتين، عائلته وعائلة أخيه المتوفى؛ من يقرأ هذه الرواية كذلك سيعجب من الأسلوب الأخاذ وكذلك من التجربة العميقة التي تتسرب إلى مفاصل السرد، حيث إن "دوستويفسكي" يكتب هذه الرواية عن خبرة وتجربة حقيقية، حيث إنه أدمن القمار أربع سنوات حين كان يعيش في ألمانيا، قبل أن يقرر التخلص منه. وإدمانه للقمار كما تقول عنه آخر زوجاته "آنا دوستويفسكايا" في مذكرات كتبتها عنه، كان بسبب حاجته الملحة للمال، تحت أمل أن يربح ويتغير حاله ثم يقطع هذه العادة السيئة، ولكنه عاش في صراع كبير حتى حسم الأمر بعد نجاح رواياته وتمكنه من أن يعيش على ريعها وإن ظلت حاجته للمال مستمرة بسبب الطلبات العائلية التي لا تنتهي. وخاصة من ابنه الأكبر الذي كانت آخر زوجات دوستويفسكي تتحدث عنه باحتقار، وأنه كان يتعب أبيه ويلح عليه كثيرا في طلب المال.

لم يعش دوستويفسكي كثيرا، بل مات وهو في عز نشاطه، في بداية الستينيات من العمر، وكانت آخر مؤلفاته الرواية الأكثر شهرة على الإطلاق وهي رواية " الأخوة كارامازوف" التي قال عنها عالم الفيزياء الشهير أنشتاين إنها ألهمته بما لم يستطع أن يلقنه له كل أستاذة الرياضيات في حياته.

دوستويفسكي الذي كان يكتب تحت إلحاح المال، كان يملي رواياته على زوجته التي بدورها تطبعها، ثم يتفرغ لمراجعتها طوال الليل، ويظل ساهرا حتى الصباح قبل أن يذهب للنوم ويستغرق فيه حتى الساعة الحادية عشر قبل الظهر. بعد ذلك يذهب بما كتب لكي ينشره في الصحف أولا حيث إن جمهورا غفيرا من المتابعين يتابعون وينتظرون كل ما يكتب.

كان دوستويفسكي محكوما عليه بالإعدام في صغره، وذلك بسبب انتمائه لحركة سياسية محظورة، ولكن في اللحظات الأخيرة، وهو مرتد ما سماه بـ " قميص الموت" حين علم أن حكم الإعدام سينفذ بعد خمس دقائق، جاء رسول الأمبراطور معلنا أن الحكم قد تم تغييره إلى الأعمال الشاقة في سيبيريا ولمدة أربع سنوات. هذا الحادث دفع به نحو الخلود عبر رواياته التي لا تموت.