كيف أختار كتابي؟

29 مارس 2023
29 مارس 2023

«يا هذا كن ذاكرا لما قد ألقيته إليك في هذا الجزء من وصف العبارة والإشارة، فإنك تجد به ما يُقلُّك إذا نهضت، ويُظِلك إذا ضحيت. ومهما لاحَ منك، أو لاح لك فيك، أو لاح لك عليك؛ فإياك أن تسهوَ عن قلبه وتقليبه، حتى يتبين لك ما أنت له، مما أنت عليه. واجعل أساسك الأثبت ودعامتك الأرسخ، أن لا تُكذِّبَ نفسك بالباطل، ولا تكذِّبها في الحق. واجتهد أن تخلو من أشغالك، وإذا خلوت من أشغالك، فاعطف على نفسك واخلُ بها، وإذا خلوت بها فاعلم أن رقيب الحق ناظر إليك ومرفرف فوقك. وأنك في عينه التي لا تنام، وفي قبضته التي لا ترام وحرمه الذي لا يضام» أبو حيان التوحيدي في كتابه الإشارات الإلهية.

أتذكر كلمات التوحيدي كلما قرأت كتابا أدرك أهميته وفائدته، ولا أنال شيئا منهما! فأعيد القراءة بعد القراءة، ليتبين أن التوحيدي وضع في كتابه الوصفة اللازمة لكل عمل عقلي وروحي في آن، وليست القراءة بنشاز عن ذلك العمل.

عملت منذ فترة على سلسلة البطاريق الكبار، التي تحدثت فيها عن بعض الأدباء الذين فقدوا البصر من الشعراء واللغويين، والذين يعدون من أساطير ثقافتنا العربية، ومن العظماء الذين نفاخر بهم الأمم، وقد اعتمد عملي في تلك السلسلة على كثير من كتب التراث الأدبي، وقارنت بين طبعات الكتاب الواحد، فترسخت عندي تلك القاعدة «في الكتب المترجمة، اختر المترجِم لا الكتاب، وفي كتب التراث، اختر المُحقِّق لا المؤلف. واختر أفضل طبعة للكتاب وإن كانت دار النشر حديثة مجهولة، لا الدار المشهورة وإن كانت ضاربة في القدم». ولكن القارئ حين يجد أمامه كتابا، لطالما رغب به وتمنى مجرد رؤيته فضلا عن امتلاكه وقراءته، تصيبه الدهشة وتأخذه الحماسة ليقتني ذلك الكتاب، وحين يقع الكتاب بين يديه، يدرك أن ذلك الشعور اللحظي لدى رؤيته للكتاب، تلاشى تماما أمام الجريمة الكبرى بحق الكتاب من قبل الناشر ومن يدعي تحقيق الكتاب.

أتذكر قبل سنوات حين خصصت ذلك العام لقراءة ذخائر التراث العربي، واخترت وقتها الكتب الأكثر شهرة للمؤلفين العظماء الذي يعدون أساس العلوم التي ألفوا فيها، كالجاحظ. وقد قرأت في تلك السنة أكثر من كتاب للجاحظ، من بينها كتاب البيان والتبيين بتحقيق العلَّامة عبدالسلام هارون وكتاب المحاسن والأضداد بتحقيق رجل آخر لا أتذكر اسمه حتى! وحين فرغت من قراءة الكتابين، وجدت بونا شاسعا بين تحقيق عبدالسلام هارون والتحقيق الذي ادعى الرجل الآخر أنه تعب فيه واجتهد؛ ففي تحقيق عبدالسلام هارون يخرج القارئ بمعارف كثيرة تخرج من دائرة ما ألفه الجاحظ في كتابه، لتشمل معارف أخرى وفائدة فوق فائدة الكتاب، مع آراء نقدية واستدراكات تزيد الكتاب قيمة وفائدة، حتى أن القارئ يصبح شغوفا بقراءة كل ما يكتبه المحقق البارع في هوامش الكتاب، ولا يريد تفويت أي عبارة أو إشارة ينثرها المحقق هنا وهناك في ثنايا الكتاب، لفائدتها الكبيرة ولاجتهاد المحقق الواضح في الوصول إلى تلك الفوائد بعد عمله المضني في التحقيق والمقارنة بين عشرات المخطوطات والكتب. في المقابل، يجد جرائم شنيعة يشترك فيها المحقق ودار النشر بحق الكتاب، فلك أن تتخيل قراءة كتاب في اللغة ويكون مليئا بالأخطاء الإملائية، فضلا عن التشكيل المغلوط للكلمات، فيخرج القارئ من الكتاب بحصيلة لغوية مشوهة بدلا من أن يزداد قوة وبراعة.

عودا على بدء، لم تكن تجربة معرض الكتاب الأخير بعيدة عن تلك الدهشة الباهرة، فحين وجدت بعض الكتب التي لطالما رغبت بقراءتها، أخذتني الحماسة فاشتريتها من دار معروفة في مجال طباعة الكتب التراثية، الأدبية منها على وجه الخصوص. ثم كانت الصاعقة أن تلك الكتب لا تصلح للقراءة حتى، إما لرداءة الطباعة، أو لسوء التحقيق الذي يعد جريمة في حق المؤلف والكتاب الأصلي، أو لأن تلك الكتب مصورة من طبعات قديمة جدا لأجل بيعها والتربح منها لا غير. هكذا يتعلم المرء -بالطريقة الصعبة- أن يتصفح الكتاب قبل شرائه حتى وإن كانت تلك النسخة الأخيرة للكتاب، وأن يبحث عن أفضل تحقيق للكتاب -إن كان كتابا تراثيا- أو أفضل ترجمة للكتاب -إن كان مترجما-، ثم يطبق ما قاله التوحيدي في كتابه آنف الذكر، لينال مطلبه من الفائدة ويلتذ بالمعرفة الصِّرفة، من مواردها العذبة.