كلام فنون.. هل للجزيرة العربية سلمها الموسيقي الخاص؟

10 أبريل 2022
10 أبريل 2022

كُتب الكثير عن قضية السلم الموسيقي العربي، ولا يزال الجدل بشأنه مستمرا منذ قرون، ويتفاعل من عصر إلى آخر حتى وصل ذروته في القرن العشرين الماضي في مؤتمر الموسيقى العربية الذي انعقد برعاية ملك مصر فؤاد الأول بالقاهرة عام 1932م.

ولكن من الملاحظ أن عرب الجزيرة العربية لم يشاركوا في هذه النقاشات العلمية الموسيقية، ولم أقرأ عن باحث من القدماء أو المعاصرين عبّر عن رأيه في هذه القضية الموسيقية الحساسة استنادا إلى الشائع من الغناء والآلات الموسيقية المستعملة في الجزيرة العربية باستثناء ما أثاره المطرب والملحن السعودي/ الحضرمي الدكتور عبد الرب إدريس من أسئلة بشأن اختلاف مقام الحجاز اليمني عن ذلك المستعمل في مصر.

والسلم الموسيقي موضوع قديم قدم الحضارات الإنسانية وهو أساس علم الموسيقى، ويتكون من مجموع الدرجات النغمية المستعملة، تُرتب صعودا وهبوطا في نظام موسيقي محدد حسب قياسات متفق عليها بشأن أبعاد درجاته النغمية، ويحفظ بالتوارث الشفهي أو بالقياسات الحسابية، وعليه تصنع الآلات الموسيقية وأوتارها، وبناء على ذلك اختلفت موسيقات الشعوب شرقا وغربا في تحديد تلك القياسات والنِسب تبعا للشائع والذوق والصناعة. والسلم الموسيقي هو معجم أي لغة موسيقية، ومنه يتم اشتقاق المقامات والألحان، ونطق أنغامه يجري عليها ما يجري على اللغة المحكية ولهجاتها، وفي اللغة العربية مثلا: عندنا اختلافات في نطق بعض الحروف الهجائية، فهناك من لا يلفظ حرف القاف، ولا حرف الجيم، وقد يغلب على لهجات بعضهم نطق القاف غينا، والغين قافا إلى غير ذلك، وهذا هو الحال في واقع الموسيقى العربية كلها، فليس كل درجاتها النغمية تنطق غناءً أو تستخرج عزفا بالمقدار نفسه بسبب اختلاف الذوق كما هو معروف مع درجة السيكاة التي لكل إقليم عربي في المشرق أو المغرب له فيها إحساس وقياس مختلف عن الآخر. ولكن الإشكالية الخطيرة والمؤثرة على صون اللغة الموسيقية وتراثها هو أنه في الجزيرة العربية لا يوجد مقياس علمي موثق عندنا للسلم الموسيقي من شأنه أن يساعد على الالتزام بمعاييره واحترام اللهجة الموسيقية المحلية من قبل العازفين، والمنفذين للأعمال الموسيقية من الخارج، وقد يُنظر إلى المختلف في لغتنا الموسيقية كنوع من الخطأ يتوجب تصحيحه بالقياس إلى المتفق عليه. وقس على ذلك الكم الهائل من المصطلحات الشرقية والغربية التي تزدحم بها الموسيقى العربية عامة.

من هنا لا يجوز من وجهة نظري ونحن العُمانيين وأشقاءنا في الجزيرة العربية قد انتخبنا نغمات موسيقية محددة واستقرت عليها الممارسة والذوق والصناعة أجيال عديدة عبر الزمان أن لا يتم حصرها وتحديد نسبها تحديدا علميا وليس تعديلها، بما يمكن المحافظة عليها، لا أن تُترك موسيقانا ومقاماتها وأبعادها وقوالبها الفنية وأساليب أدائها عرضة لنظريات موسيقية خارجية واجتهادات مختلفة ومتناقضة في الوقت الذي نتطلع فيه إلى نهضة موسيقية وإصلاحات ثقافية عميقة. ولا أبالغ إن قلت: إن أكثر الموسيقات في العالم مهملة من قبل الباحثين من أبنائها أو غير أبنائها قديما وحديثا هي الموسيقى في جزيرة العربية. من هنا أرى أن القضية الأكثر أهمية في الحاضر والمستقبل في ظل الإصلاحات السياسية والثقافية التي تشهدها دول هذه المنطقة أن تتعاون في إطار آليات أمانة مجلس التعاون لإنشاء إدارة بحثية تابعة لها تعنى بشؤون الموسيقى في الخليج والجزيرة العربية، والمحافظة على تراثها النغمي وسلمها الموسيقي وقياس أبعاد درجاته النغمية وحصر أنماطها وصيغها اللحنية والإيقاعية وآلاتها الموسيقية المستعملة. وفي هذا السياق يمكن صنع آلة موسيقية نموذجية مبتكرة تضم كافة درجات السلم الموسيقي في الجزيرة العربية وأوتارها القياسية سواء بالطرق القديمة بصنع آلة قانون خاصة مثلا، أو عبر استعمال التقنيات التكنولوجية المعاصرة لعلم الاكوستيك لابتكار آلة جديدة في ضوء النتائج العلمية المعتمدة.

ونعلم جميعنا أن علم الموسيقى العربي قد بدأ مع فيلسوف العرب أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي المتوفى حوالي 873م، وربما قبل ذلك مع الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب علم العروض والمتوفى حوالي 791م حسب بعض الأقوال، ولكن على حد علمي فإن هذه الدراسات تمت كلها على السائد من الموسيقى والغناء في العراق والبلاد المجاورة لها من عرب وعجم في العصر العباسي. وفيما يتصل بالسلم الموسيقي عند عرب الجاهلية لا يزال الباحثون يعتمدون على ما ذكره أبو نصر محمد الفارابي والمتوفي حوالي950 م بالرغم من الانتقادات بشأنه، وفي هذا السياق يذكر الدكتور صبحي أنور رشيد في كتابه تاريخ الموسيقى العربية، أن الفارابي عند معالجته لآلة الطنبور البغدادي والدساتين العائدة له نراه يطلق على هذه الدساتين تسمية ( الدساتين الجاهلية)، ويعني بها تلك الدساتين التي تُرتب متساوية المسافات، وتعطي الدساتين الجاهلية السلم الموسيقي المستعمل في ذلك العصر. وعلى كل حال، كان التنظير الموسيقي ولا يزال يتم في عواصم الحضارة العربية من العراق إلى بلاد المغرب العربي منذ القرن التاسع مع تعميم النتائج دون المرور ميدانيا بموسيقى هذه الجزيرة الملهمة.

إن أجود أنواع الآلات الموسيقية وأوتارها المستعملة في موسيقانا إلى جانب العديد من المنتجات ذات الصلة نستوردها من الخارج، لذلك فإن المعالجة التي نقترحها بشأن اللغة الموسيقية من شأنها أن تعود بالنفع ليس على تجويد الممارسة الموسيقية وعلومها فحسب بل وكذلك على الاقتصاد الموسيقي.