كلام فنون ..كلمة تضامن مع زملائي الموسيقيين الروس والأوكران

20 مارس 2022
20 مارس 2022

التضامن مع أبناء دول العالم الثالث ( كما يسمى في الثمانينات)، هو سبب حصولي على بعثة لدراسة الموسيقى من الاتحاد السوفييتي، والذي كانت روسيا وأوكرانيا عموده الفقري. كان ذلك قبل أكثر من أربعين عاما في مدينة كييف عاصمة جمهورية أوكرانيا الاشتراكية، وتحديدا في R.GLIER KYIV INSTIYUTE OF MUSIC الكائنة بالقرب من مبنى جامعة كييف ومركز المدينة العريق.

لم أكن أحمل أية معارف أو مهارات موسيقية سوى الذي تعلمته من عزف بسيط، وشفهي على العود والكمان من أستاذي الحضرمي العم مبارك (رحمة الله عليه)، وأعتقد لو دار بي الزمن ووجدت نفسي عضوا في تلك اللجنة الكريمة التي استمعت إلى عزفي آنذاك على آلة الكمان ثم على آلة العود في تلك الكلية لربما كان لي رأي مختلف. ولكن مع كل ذلك قبلتني اللجنة، والتحقت بالدراسة مع كورس جميعهم من الطلاب الروس والأوكران تحت إشراف موسيقارة الشعب الأوكراني الفنانة والمربية الجليلة الدكتورة ليدا الكسندروفنا (رحمة الله عليها)، وهذه المربية كانت تحمل أوسمة عديدة كبطلة مشاركة في الحرب الوطنية العظمى كما يسمونها هناك، أي الحرب العالمية الثانية.

أدركت أستاذتي الجليلة منذ اليوم الأول تخلف مستواي عن زملائي وزميلاتي، فطلبت مني ( رغم كبر سنها وضعف صحتها) أن أقدم لها جدول المحاضرات والدروس الخاص بي بحيث تبحث فيه عن وقت تستدعيني فيه لتقدم لي حصصا إضافية، وتساعدني على قراءة وكتابة النوتة الموسيقية التي كنت أعاني منها بسبب أنني لم أدرسها من قبل، والحقيقة لولا مساعدة هذه المربية الجليلة وزملائي الطلبة، والجميع في تلك الكلية المحترمة لما استطعت تجاوز السنة الأولى، والاستمرار في الدراسة للسنوات اللاحقة.

أتذكر الكثير من القصص والتحديات، وتلك البلاد الجميلة وشعبها العظيم المحترم، وأنا اليوم أحمل شهادة الماجستير في الموسيقى والعلوم الموسيقية من المعهد العالي للموسيقى بجامعة تونس، وقد خدمت موسيقى بلادي سلطنة عُمان العظيمة بأكثر من (18) كتابا ودراسة منشورة بجانب عدد من المؤلفات الموسيقية والغنائية بعون من الله، وفضل تلك الأستاذة الجليلة، وكل الأساتذة والزملاء والزميلات ومساندتهم لي على تجاوز الصعوبات التي واجهتني، وتمنيت اليوم لو أستطيع تقديم العون لهم والمساعدة الإنسانية في هذا الوقت العصيب، ولكن لم أجد سوى هذه الكلمات القليلة التي أسجل فيها شكري لهم وتضامني معهم جميعا دون استثناء، روسا وأوكرانا، هؤلاء الناس الذين أعرفهم لا يحبون الحروب، وقد عرفوها خير معرفة، وعانوا من ويلاتها الجسيمة. إن هؤلاء الموسيقيين الذين يتمتعون بأفضل أنواع التعليم الموسيقي في العالم، يعانون اليوم ليس في وطنهم أوكرانيا بسبب هذا الاقتتال الذي وقع بين بلدين شقيقين فحسب بل وبسبب سياسات تعسفية خاصة تجاه الموسيقيين الروس الذين فصلوا أو طردوا من أعمالهم في عدد من دول أوروبا الغربية لإنهم فقط مواطنون روس. إن هذا الفعل المتناقض مع الأخلاقيات الإنسانية من قبل بعض الدول الغربية لم يكن فعلا موفقا ولا متوقعا، ويعد في نظري فقدانا لمصداقيتها، وجدارتها في حماية حقوق الإنسان.

في كييف لم يكن بوسعي في ذلك الوقت التفريق بين أساتذتي وزملائي، من هو الروسي ومن هو الأوكراني، لم يكن ذلك مهما أو لم يشعرني أحد بأن هذا شيء مهم يجب أن أعرفه، فالجميع كان يتحدث باللغة الروسية. وحتى أستاذتي الجليلة ليدا الكسندروفنا لا أعرف حتى اللحظة إن كانت روسية أم أوكرانية الأصل.

أتذكر في أول أيام السنة الأولى، أخذني أستاذ آلة الكمان إلى الغرفة التي كان يدرس فيها، وطلب مني الاستماع إلى واحدة من طالباته وهي تقدم أمامه معزوفة موسيقية على آلة الكمان.. في آخر الدرس سألني عن رأيي في مستوى عزف الطالبة فقلت له: إن أفضل موسيقي عندنا ليس في ربع مستواها! فقهقت بالضحك.. وسألني إن كنت أريد أن أكون في هذا المستوى ؟ قلت نعم. فقال لي سوف آخذك معي إذا اخترت هذه الآلة، ولكن للأسف لم أجد مالا كافيا لشرائها.

مسلم بن أحمد الكثيري

موسيقي وباحث