كلام فنون.. زمط المنجور

20 فبراير 2022
20 فبراير 2022

أتذكر أن في إحدى السنوات القليلة الماضية، قابلت بعض الممارسين للموسيقى التقليدية في ولايات عديدة، وكانوا يشتكون من توسع التخطيط العمراني الذي ابتلع مساحات واسعة من الأرض خارج التجمعات السكانية القديمة، ليضم المواقع التي يمارسون فيها فنونهم الغنائية المتعددة الوظائف. وتقع أهمية تلك الأماكن لهؤلاء الممارسين، في ارتباطها ببعض الرموز ذات الصلة بممارسة تلك الفنون، أو تعودوا أن يجتمعوا فيها في بعض المناسبات المتعارف عليها على مر أجيال عديدة، وأصبحت بالنسبة لهم تراثا ومعلما يجتمعون إليه عندما يحين وقت أداء هذه الفنون، ومن بين تلك الفنون التي بدأت تتعرض لمثل هذه المتغيرات زمط المنجور (على سبيل المثال لا الحصر). إن مثل هذه الفنون ليس مكانها المسارح العصرية أو قاعات المراكز الثقافية الجديدة، ولكن يمكن المحافظة عليها واستثمارها واستدامة منافعها، عبر تنمية بيئتها الجغرافية. من هنا، أقترح المحافظة على أماكنها وتطويرها لتتناسب مع الظروف المعاصرة ومتطلبات جذب الجمهور المعاصر، ذلك إنه بسبب بصمتها التراثية ممكن أن يشكل استمرار تنظيمها علامة ثقافية وسياحية مميزة للبلد ولها عظيم الفوائد المادية والمعنوية.

والمنجور عجلة كبيرة مصنوعة من الخشب المحلي، يتم بواسطتها سحب المياه من الآبار، وهي جزء من تركيبة خشبية كبيرة، تضم عدة أجزاء تثبت على الأبار. وبناء على ما يصدر عن المنجور من درجات نغمية قد تشكل جملة لحنية قصيرة نصنفها كآلة موسيقية واحدة مصوتة بذاتها. وبسبب جودة المنجور ومهارة المؤدين قد تسمع أصواتها من مسافات بعيدة، ويتنافس المزارعون على مضاعفة قوة صوتها وتجويد نغماتها، ويضعون لذلك جوائز نقدية تذهب معظمها إلى صيانة هذه المناجير وتحسينها. وفي الواقع لهذه الفعالية جمهور من المتابعين (إن جاز التعبير) يحرصون على حضور منافساتها التي تستمر معظم الليل أيام العطل، وكل جمهور يشجع أحد الفريقين بحماسة شديدة، وبهذا يقضون أمسية جميلة يستمتعون فيها بهذه المنافسة الجميلة.

من وجهة نظري، لهذه الفنون الموسيقية التقليدية اقتصادها الذي ممكن تنميته وتعظيمه لصالح جميع الأطراف المستفيدة، وفي حالة المنجور هناك الفصيل ومساعدوه، والفريقان المتنافسان، والنجارون، والجمهور. لهذا لا بأس من الاستفادة من هذه الفنون وتخصيص لها أماكن أثناء التخطيط العمراني بالولايات تتناسب مع ممارستها التقليدية، لتتحول إلى أماكن جاذبة للجهور والسياح وتستوعب تقديم مناشط أخرى ذات صلة.

أما توقيت ممارستها فممكن التحكم فيها من وجهة نظري بحيث يُنتفع منها بشكل أوسع، كما يمكن تنظيم منافسات واسعة ولمدة طويلة كأي منافسة. والأهم هو المكان المناسب الذي يتفق عليه مع الممارسين، كالبيئة الزراعية مثلا، كما في زمط المنجور. فما الذي يمنع أن يتم إنشاء مدرجات مفتوحة للجمهور بالقرب من المكان في واحدة من ولايات الباطنة الزراعية التي لا يزال يحظى فيها زمط المنجور بشعبية؟، بحيث تكون هذه المدرجات المكشوفة مزودة بالخدمات وبتصميم جاذب، وجدولة هذه الأماكن وفعالياتها في البرنامج الثقافية والسياحية بحيث يضم إلى جانب منافسة زمط المنجور فقرات أخرى من فنون الغناء والرقص التقليدي لتلك الولاية أو المحافظة، وسيكون ذلك أجمل في اعتقادي لو تم إنشاء هذه الأماكن والفعاليات بالقرب من القلاع والحصون والمعالم الأثرية التي تزخر بها بلادنا.

وفي الواقع زمط المنجور؛ مسابقة يتنافس فيها المزارعون أصحاب المناجير ويفوز فيها الأقوى صوتا والقادر على التنغيم الحسن. والحكم يسمى "فصيّل"، وطبعًا هناك معايير أخرى ربما غير هذه متعارف عليها.

وطبيعة هذه المنافسة الظريفة أن تكون بين فريقين لكل منهما بئر وتركيبة وطبعًا منجور أو أكثر. وقد حضرت في فترة من الفترات منافسة رائعة بين فريقين، صاحبت فيها الفصيّل الذي كان يقف بعيدًا عن مكان المتنافسين، وينتقل من طرف إلى آخر، ويقيس بسمعه قوة أصوات المناجير وحسن أدائها، وعلى ما أتذكر كان عنده معيار معين لجمل نغمية معينة يتطلب تحقيقها من الزمط يقيس عليها الأداء.

استمرت المسابقة من بعد منتصف الليل حتى قبيل أذان الفجر، ومما عرفته من حواري مع ذلك الفصيل إنه قد لا يذهب إلى مكان الحدث ليبلغ بنفسه النتيجة عندما يشعر بقلق من حدوث اعتراض من الفريق الخاسر، ويكتفي بإبلاغ معاونية وبعض الأشخاص الذين يثق بهم. والظريف أنه يحرص أن يكون أثناء التحكيم في مكان بعيد ومجهول للفريقين المتنافسين.

مسلم بن أحمد الكثيري موسيقي وباحث عماني