كلام فنون: بشأن التأريخ للموسيقى العُمانية «7» ..الآلات الوترية العودية

04 فبراير 2024
04 فبراير 2024

آلة العود بنوعيها هي الآلة الوترية الوحيدة المعروفة لنا في تاريخ الموسيقى العُمانية التي تستنبط درجاتها النغمية بواسطة قسمة الوتر، وهي في الوقت نفسه الآلة الأقدم والأندر، وبشكل خاص العود الكامل كان من الصعب قبل سبعينيات القرن العشرين الحصول عليه واقتنائه لأسباب عديدة منها عدم وجود صناع له ولأوتاره في عُمان وصعوبة صيانته.

من هنا واستكمالا لبحثين سابقين، سوف أحاول في هذه المداخلة متابعة جمع المعلومات التاريخية عن استعمال هذه الآلة في الغناء العودي العُماني والتعريف بأهمية قوالبها الفنية اللحنية والإيقاعية المشتركة مع أشقائنا في اليمن والخليج وأعلامها الذين أسسوا أهم قوالب الغناء العودي وهُويتها الثقافية والفنية وأساليب أدائها في هذه المنطقة منذ القرن السابع عشر.

ومن أبرز فنون الغناء العودي، ما عرف فيما بعد بالصوت الخليجي، ولا توجد فروقات جوهرية بين أداء الصوت العُماني والخليجي والجميع يؤدي الأصوات نفسها، حسب مهاراته وقدراته الأدائية. والمطرب شهاب أحمد (مطلع القرن العشرين) هو أقدم مطرب عودي ومصوّت عُماني وصلتنا أخباره عبر روايات المطربين البحرينيين، وفي مقدمتهم محمد بن فارس الذي أقام فترة من الزمن مع هذا المطرب في مطرح، وأول عود اشتراه سالم بن راشد الصوري كان من مدينة عدن في حوالي منتصف القرن العشرين الماضي.

من هنا ومن خلال هذه العلاقة الشخصية والصلات الفنية القديمة، أحاول بناء تسلسل تاريخي أولي عن استعمال هذه الآلة اللحنية التي يقف على ظهرها تراث غنائي عظيم من جهة، ومتابعة من جهة أخرى الصلات الموسيقية بين رواد الغناء العودي في هذه المنطقة الجغرافية الشاسعة، قبل ظهور الدولة الوطنية معتمدا في ذلك على المصادر التاريخية والروايات الشفهية والتسجيلات السمعية والمرئية الموثقة.

والأسطوانة الأقدم حسب معلوماتي هي تلك التي سجلها المطرب سالم بن راشد الصوري في أربعينيات القرن العشرين الماضية، وكان أول صوتين سجلهما الصوري من نوع الشرح (صوت خو علوي)، والثاني صوت ختم للمطرب والشاعر الغنائي الحضرمي اليافعي يحيى عمر المتوفى حوالي 1640 ميلادية، الذي قضى معظم حياته في الهند التي كانت ملتقى تجار ومطربي السفن من عُمان واليمن والخليج. ويحيى عمر هو -حسب علمي- أقدم اسم لا يزال يتردد في أغاني الصوت منذ القرن السابع عشر وحتى اليوم:

يحيى عمر قال قف يا زين.. سألك بمن كحل أعياناك ومن علمك يا كحيل العين.. ومن ذا الذي خضب ابنانك ومن شكلك حرز في حرزين.. ومن شكل لؤلؤك ومرجانك.

والشخصية الثانية، التي غنى لها الصوري في ذلك التسجيل التاريخي، -كما ذكرت- هو المطرب والشاعر الغنائي الحضرمي زين العابدين الحداد المشهور بخو علوي والمتوفى حوالي 1745 في بلدة الصير أو الصيرة وهي رأس الخيمة حسب ما ذكره لي الباحث الفرنسي الدكتور جون لامبير.

إن الأصوات الغنائية المتوارثة التي كان يؤديها الجميع بآلة القنبوس ثم بالعود في عُمان والخليج خاصة، تعود نصوصها ومعظم ألحانها إلى عدد من هؤلاء المطربين الشعراء الجوالين والمهاجرين. إن تاريخ الغناء العودي المعاصر وقوالبه الفنية اللحنية والإيقاعية التي ذكرتها سابقا، يبدأ من القرن السابع عشر الميلادي مع يحيى عمر، ثم في القرن الثامن عشر مع المطربين الحضرميين خو علوي، علي أحمد زامل ومعاصريهما. وهكذا تدريجيا نحو القرن التاسع عشر مع المطرب والشاعر الكويتي عبدالله الفرج. وشهاب أحمد في مسقط، ومحمد بن فارس وعبدالرحيم العيسري اليماني في البحرين في مطلع القرن العشرين. وفي هذه الفترة الزمنية تقريبا تفيدنا الروايات عن اسم عازف القنبوس والمطرب الشاعر الغنائي محمد العيدروس في مدينة صلالة، وربما هو ذلك الشخص الذي ورد ذكره في بعض المصادر الحضرمية بنفس الاسم منسوب إلى آل الحبشي. وكان منهم من وصلنا اسمه فقط دون أن نعرف له لحنا أو نصا شعريا مثل: شهاب أحمد في مسقط، وعبدالرحيم العيسري اليماني كمشاهير غناء الصوت في وقتهم، يلجأ إليهم المطربون للتدريب ومعرفة جديد الأصوات، وآخرون توارث المطربون آثارهم الفنية، وظلت أسماؤهم محفوظة، مما يدل على مكانتها ودورها الفني.

وتذكر المصادر التاريخية والروايات الشفهية المسجلة التي اطلع عليها كاتب هذه المداخلة أن المطرب شهاب أحمد (المسقطي) كان واحدا من أهم مطربي الصوت ومصادره في المنطقة كلها، وقد كان هذا الفنان -الذي لا نعرف عنه الكثير من المعلومات- معاصرا لفنان آخر ظلم كثيرا، وهو الفنان المعروف في البحرين بعبدالرحيم العيسري اليماني وهو أستاذ المطرب البحريني محمد بن فارس، وقد كان العيسري يعزف العود باليد اليسرى، فربما لهذا السبب سمي بالعيسري وهو معروف في بلاده الأصلية حضرموت من المطربين المهاجرين، عاش فترة طويلة متنقلا بين البحرين والهند ثم رجع إلى حضرموت ومات فيها، وقد رثاه القاضي الفنان عبدالله محمد باحسن في قصيدة مشهورة.

وبطبيعة الحال، فإن هذا التسلسل التاريخي المبدئي -الذي ترويه المصادر التي أشرت إليها، ويصل بنا إلى القرن السابع عشر الميلادي، بشأن الغناء الطربي وأهم آلاته القنبوس ثم العود الكامل- سيحتاج حتما إلى إضافات مستمرة للمعلومات والأسماء، بحيث يستوعب قائمة كبيرة من الأسماء التي شكل تراثها الغنائي والشعري وأسلوب عزفها الهُوية الثقافية والفنية للغناء في منطقتنا الممتدة من حضرموت وعُمان جنوبا إلى البحرين والكويت شمالا.

وقد ترسخ هذا التراث الغنائي العودي مع ظهور التسجيلات السمعية ونشأة تجارة الأسطوانات منذ مطلع القرن العشرين وشيوع استعمال العود الكامل، ولا يمكن في الوقت ذاته، فصل تطوره الفني عما يدور في الطرف الغربي من الجزيرة العربية في اليمن والحجاز، على الرغم من أن القوالب الفنية اللحنية والإيقاعية للغناء العودي وأساليب أداء مطربي الطرف الشرقي من الجزيرة العربية، ليست هي كذلك عند مطربي الطرف الغربي، الذين لهم أيضا قوالبهم الفنية اللحنية والإيقاعية العودية، وربما أشهرها الموشحات الصنعانية والمجسات الحجازية.

إن الصوت والعوادي والختم، كانت ولا تزال أبرز أنماط الغناء العودي في شرق الجزيرة الغنائية، وأن الصوت بشكل خاص هو الفن الغنائي الأشهر والمميز لعُمان والخليج عامة، والكويت والبحرين خاصة حتى عرف بالصوت الخليجي كرمز ثقافي وفني لهذه المنطقة، وكان فيهم أشهر وأبرز مطربي هذا الفن حتى ظهور الأغنية وتجارة الأغنية وسوقها في السبعينيات.

إن المطرب والشاعر الغنائي حمد حليس هو أستاذ سالم الصوري، إلا أنه لم يسجل أسطوانات قبله، ونعتقد أن حليس كان على صلة ما مع شهاب أحمد في مسقط وربما تأثر به، فقد روى لي ابنه المطرب عوض حليس أنه كان يحضر مع والده وهو صغير السن جلسات غنائية خاصة لشهاب أحمد في ضواحي مسقط.

ولكن هل يمكن النظر إلى الغناء العودي المعاصر باعتباره تطورا عن طرب الآلة القديم الذي ذكره الأعشى في النص المقتبس أعلاه؟

إن هذا ما أحاول إثارته باختصار في هذه السطور معتمدا على الآلات المستعملة والقالب الفني والآلات الإيقاعية والأداء الحركي للزمن المشترك بينها. وهكذا وكما أعرف من دراسة ميدانية -قمت بها سابقا- أن فرقة بيت توفيق في صلالة بشكل خاص تتوارث أصوات الشرح منذ أكثر من قرن من الزمان، ورغم أنها تخلت عن استعمال عود القنبوس منذ فترة زمنية غير محددة، فإن هذا الفن العريق وأصواته التراثية تحتفظ باسم الآلة كما هو موثق في أرشيف مركز عُمان للموسيقى التقليدية. لهذا أعتقد أن نموذج الـ«تخت» عند فرقة بيت توفيق في صلالة، وفرق الزربادي في حضرموت الأقدم في الجزيرة العربية الذي لا يزال لحد ما يحتفظ ببعض تقاليده الفنية القديمة وآلاته الموسيقية المزهر والقصبة الوارد ذكرهما في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي إلى جانب الآلات الإيقاعية المعرفة بالمهجر والمرواس. علما أن استعمال الآلات الوترية والزامرة، يتم حسب توفرها مع العازفين عليها، كما نلاحظ مثلا عند فرق الشرح في مدينتي قريات ومسقط التي تكتفي بالآلات الإيقاعية وفي مقدمتها آلة المرواس. وفي الواقع كان الكثير من الفقهاء في المنطقة يفتون بعدم جواز استعمال أنواع الآلات العودية بشكل خاص، مما أثر على استعمالها وتطور صناعتها.

استعمال آلة العود الكامل يحدث فارقا فنيا في الأداء، من آلة مصاحبة للمطرب إلى آلة العازف الصولو.

وهكذا فإن استعمال آلة العود الكامل وهو امتداد لتراث الأول، قد أحدث فارقا فنيا في تطور مهارات العازفين المطربين وأنماطهم الغنائية وأداء أصواتها التي وقعت الإشارة إليها وأغاني التسميع في صلالة، كما هو عند المطربين العوادين هم: سالم الصوري، وحمد الصوري ود جاش، وعبدالكريم بن علي الغساني، وسالم بن علي سعيد وعوض حليس، وجمعة فائل وغيرهم لا للحصر.

فمنذ السبعينيات من القرن العشرين تضخم عدد المطربين العوادين المشتغلين في الغناء بعد الانفتاح العظيم الذي قام به السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- فبرز عدد كبير من هؤلاء المطربين كان أشهرهم وأهمهم سفير الأغنية العُمانية سالم بن علي سعيد -رحمة الله عليه. ويمكن اعتبار ظهور العازف المنفرد (الصولو) كان مع نشأة الأغنية العُمانية الحديثة منذ سبعينيات القرن العشرين، والحاجة إلى العازفين الماهرين على مختلف الآلات الموسيقية منها بطبيعة الحال، ومع مرور الوقت والسنوات منذ ذلك الوقت يبرز عدد من هؤلاء العازفين الذين لهم تسجيلات عزف صولوهات منفردة في الأغنيات العُمانية الحديثة ومنهم كاتب هذه المداخلة.

ورغم أننا منذ هذه الفترة الزمنية -وخاصة مطلع هذا القرن الحادي والعشرين- من هنا يمكن استعمال مصطلحين مهمين: العواد المطرب، والعواد الصولو، للدلالة على هذا السياق، إلا أن هذا التطور الفني نحو بروز العازفين الماهرين المتقنين لمختلف مدارس عزف العود، لم يبرز بقوة، إلا منذ تأسيس الجمعية العُمانية لهواة العود التي كان مديرها المؤسس المطرب وعازف العود فتحي بن محسن البلوشي ثم كاتب هذه المداخلة لفترة قصيرة من الزمن.

وكما أن هذه الجمعية استطاعت أن تسهم في إبراز صناعة آلة العود، إلا أن دورها الذي نجحت فيه هو ترسيخ العازف المنفرد غير المغني والمتخصص بهذه الآلة والمتقن لمهارات عزفها العراقية والشامية والمصرية. ومن أهم العازفين في هذه الجمعية: سالم المقرشي، ويعقوب الحراصي، ونبراس الملاهي، وخالد التويجري، ويوسف اللويهي وغيرهم.

وكان الاهتمام الرسمي بهذه الآلة العريقة كآلة مصاحبة للغناء، نشأ منذ سبعينيات القرن العشرين مع تأسيس فرق موسيقية منها الخاصة تحت رعاية سامية، أو مؤسسات حكومية، إلا أن العمل التوثيقي الأهم لآلة العود بدأ منذ تأسيس مركز عُمان للموسيقى التقليدية الذي قام بدور مهم خلال السنوات الماضية في إطار عنايته بتوثيق آلات الموسيقى العُمانية التقليدية عامة والعود خاصة، وقد توِّج ذلك الاهتمام بتنظيمه ملتقى دوليا للعود بمناسبة مسقط عاصمة الثقافة العربية عام 2006 وأصدر بالتزامن مع تلك المناسبة كتاب بعنوان: «آلة العود بين دقة العلم وأسرار الفن» للأستاذ الدكتور محمد قطاط الذي أصبح منذ ذلك الوقت واحدا من أبرز المصادر والمراجع للدارسين.

وفي هذا الشأن كان الباحث قد قدمها في كتاب مصور بعنوان: «آلات الموسيقى التقليدية العُمانية» وصدر في عام 2004 من قبل مركز عُمان للموسيقى التقليدية تحت إشراف الأستاذ الدكتور محمود قطاط.

الخاتمة

إن آلة العود كانت ولا تزال آلة أساسية في الغناء العُماني قديما وحديثا، ورغم إهمال التوثيق في القرون الماضية بما لا يتناسب ما مكانة عُمان وتاريخيها الثقافي والفني، فإن الكاتب يتطلع إلى الحاضر والمستقبل بثقة كبيرة، بأن الفن العُماني سيعود إلى مكانته ودوره البارز.

وكان كاتب هذه المداخلة المتواضعة قد اهتم اهتماما شخصيا بهذه الآلة كعازف وباحث، من هنا تأتي أهمية هذه المعلومات البسيطة والمهمة في هذه المداخلة وهي معلومات مستقاة من روايات موثقة في أرشيف مركز عُمان للموسيقى التقليدية، إلى جانب مصادر تاريخية وأدبية عُمانية وخليجية ويمنية ودراسات وبحوث نشرت لي سابقا، يجد المهتم بعضها موثقا هنا في المصادر والمراجع.

مسلم الكثيري موسيقي وباحث