كلام فنون: الهوية الموسيقية بين الأمير أحمد فضل القمندان ومحمد جمعة خان «4»

10 ديسمبر 2023
10 ديسمبر 2023

المشروعات الإبداعية الموسيقية في الجزيرة العربية ليست كثيرة العدد مقارنة بالممارسين ولكنها نوعية ومؤثرة، ساهم روادها الأوائل بطرق وأساليب متعددة في بلورة الهوية الثقافية للغناء وإثرائه بقدر ما سمحت لهم فيها ظروفهم والبيئة الاجتماعية. وكما لاحظنا في المقالات السابقة بأن الفارق في المرجعية الثقافية لكل من الأمير أحمد فضل القمندان والمطرب محمد جمعة خان كان من بين أهم العوامل الأساسية في نجاحهما وتميزهما الفني واستمرار توارث أغانيهما عبر الأجيال. وسأكتب لاحقا عن بعض المطربين العُمانيين أصحاب هذه المشروعات الغنائية ذات الأثر الفني العميق في هويتنا الموسيقية، متمنيا على المعنيين بالأمر الثقافي والفني إقامة مهرجان سنوي واحد أو أكثر يخصص لنا نحن الجيل الجديد من المؤلفين الموسيقيين والملحنين والمطربين العُمانيين وفرقنا الموسيقية الخاصة بمختلف توجهاتنا الثقافية والفنية لتقديم مؤلفاتنا وألحاننا الموسيقية والغنائية الجديدة للجمهور.

حظي المطرب والملحن محمد جمعة خان بالكثير من الاهتمام من قبل الكتاب الحضارمة خاصة واليمن عامة، كما أن معظم أعماله الغنائية موثقة ومنشورة وقد ذكرت أكثر من مثال في هذا المقال والذي سبقه، لهذا أعتقد إنه يسهل دراسته والكتابة عنه بالتعريف أو بالتحليل. ومحمد جمعة من المطربين الذين يحظون بمكانة بارزة في المجتمع الحضرمي وخاصة من قبل الموسيقيين أعضاء فرقته لدرجة إنه لا يتقبل بعضهم أي انتقاد وجّه له. وفي هذا السياق كتب الأستاذ عمر بن عبد الرحمن العيدروس في كتابه «مقدمات في الأغنية الحضرمية» وجهة نظر له بشأن الأغنية العوّادية: «يشوقني برقٌ من الحي لا معُ» التي عدّها المطربون من أصعب الأغاني العوّادية، معلقا بأنه لا يراها كذلك وإنما عشاقها لا يتقبلونها إلا من فم محمد جمعة خان. وفي هذا السياق يذكر حادثة وقعت له مع «ناقر الدف المرحوم بكار باهيّال وهو من الملازمين لمحمد جمعة خان في حله وترحاله ومن الحفّاظ لأغانيه بشأن أغنية أخرى بعنوان: «عيني لغيرِ جمالِكُم لا تَنْظرُ» وهي أغنية صوفية مشهورة في الخليج وتؤدى بلحن محمد جمعة خان، فيقول الكاتب عمر أن محمد جمعة كان ينصب كلمة «جمالَكُم» هكذا، لذلك «حاولت إفادة الفنان الحضرمي كرامة مرسال بأن يلفظها لفظا صحيحا «جمالِكُم»، فاحتج بكار بشدة وزجرني وأصر على ألا أعبث بأغاني محمد جمعة». وهكذا يعلق الكاتب على ذلك بأن تصحيحه اللغوي «عدّه باهيّال نوعا من العبث». وفي الواقع هذه الأغنية العوّادية واحدة من أشهر أغاني محمد جمعة، وهو الفن الغنائي الذي يعد بشكل عام من أصعب الأنماط الغنائية ولا يجيده غير المتمرسين بالغناء والعزف وخاصة نوعه الثقيل. وأعتقد أن هذا النمط الغنائي المتميز نتاج تلاقح ثقافي حضرمي هندي:

عيني لِغَيْرِ جمالِكُم لا تنظرُ

وسِواكمُ في خاطري لا يَخْطُرُ

فإذا نطقتُ ففي حديثِ جمالِكم

وإذا سَكتُّ ففيكمُ أتفكرُ

حبي لكم طبعٌ من غيرِ تكلُفِ

والطبعُ في الإنسانِ لا يتغيرُ

صبّرت قلبي عنكمُ فأجابني

لا صبر لي لا صبر لي لا أصبِرُ

لا صبرَ لي حتى يراكمُ ناظري

وعلى محبتِكم أموتُ وأُحْشَرُ

ومحمد جمعة كان عارفا بالغناء الحضرمي العربي، وفي نفس الوقت الغناء الهندي، ويتقنهما بكفاءة عالية وظهر هذا واضحا في أغانيه وأسلوبه الفني عندما تفرغ للتلحين والغناء بعد تقاعده من الخدمة في الفرقة النحاسية العسكرية. لذلك كتب الأستاذ جابر علي أحمد في كتابه المشار إليه في المقال السابق بأن محمد جمعة خان: «أمد الذائقة الفنية اليمنية بمصادر جديدة للاستماع الموسيقي» والمقصود هنا المصادر الفنية الهندية. وهكذا ورغم شيوع الألحان الهندية في ساحل حضرموت حوالي منتصف القرن العشرين وممارسة عدد من المطربين له، إلا أن محمد جمعة من وجهة نظري عمق هذا التوجه والتأثير الهندي في الغناء الحضرمي كنمط فني واسع الانتشار وصل صداه حتى الخليج، كما أنه قد يكون من أشاع استعمال آلة العود الشرقي في حضرموت بديلا عن عود القنبوس التقليدي اليمني حسب بعض الكتاب. وقد أخذ هذا التأثير الهندي في غناء محمد جمعة صورا فنية مختلفة، في القوالب الفنية والضروب الإيقاعية وصناعة الألحان، أو اقتباسها مباشرة من الغناء الهندي وحضرمتها كما في أغنية «حنانيكِ» وهي من كلمات الشاعر حسن محمد البار الذي ربما له علاقة قرابة مع مطرب إندونيسيا الحضرمي شيخ عبد الله البار. وأعتقد أحدث تسجيل لهذه الأغنية الجميلة منشور في اليوتيوب بأداء مميز للفنان الكويتي الكبير خالد الملا، مع توزيع فني جديد للدكتور سليمان الديكان، فيه من أساليب الشرق والغرب ممزوجا باقتباسات من صوت محمد جمعة. ولمحبي هذه الأغنية وأسلوب محمد جمعة خان اختم بنصها الشعري مختصرا بعض أبياتها الأصلية كما فعل عدد من المطربين المتأخرين في حضرموت والخليج متمنيا للقراء الكرام قراءة مفيدة واستماعا طيبا:

حنانيكِ يا مَن سكنتِ الحنايا..

وحملتِ قلبي جميعَ الرّزايا

وأشعلتَ فيهِ جحيم الهوى..

وغادرتهِ جذوةً في الخلايا

ونِمتِ على سُهدِ ليلي الحزين..

وأخرستِ بينَ الجوانحِ نايا

تعالي ترينَ ما تبقى بهِ..

وهل يترُكُ الشوقُ غيرَ البقايا

تعالي أعيدي نعيم الهوى..

هواكِ الذي قد سرى في دِمايا

أعيدي ليالينا المُشرقات..

لألقى على حافيتيها مُنايا

أعيدي زمانًا مضى كالنسيم..

تملّت مشَاهِدهُ مُقلتايا

مسلم الكثيري موسيقي وباحث