كسل العقل
09 سبتمبر 2025
09 سبتمبر 2025
عندما بدأت أبحث في معنى «كسل العقل»، كان أول ما تبادر إلى ذهني هو أنه يعني الاعتماد على الآخرين في التفكير واتخاذ القرارات بدلًا من أن يقوم الإنسان بذلك بنفسه. هذا النوع من الكسل يُضعف قدرة الفرد على استخدام عقله، ويجعل ذهنه يضمر شيئًا فشيئًا حتى يفقد تدريجيًّا مهارته في التفكير في أي أمر آخر. ومع مرور الوقت يتحول من إنسان واعٍ قادر على التحليل والاختيار، إلى إنسان متلق وملقن يكتفي باتباع ما يُملى عليه. وما يبدو له في ظاهر الأمر أنه نصح أو إرشاد، يخفي في باطنه حالة عميقة من الخمول الذهني والاعتياد على السكون، حتى يدخل العقل في سبات طويل بعيد عن التفكير والإبداع.
موقف صغير جعلني أُعيد التفكير في مفهوم «كسل العقل». محاسب في محل صغير لم يستطع أمامي أن يحسب مسألة حسابية بسيطة، فلجأ مباشرة إلى الآلة الحاسبة. عاتبته على عدم تشغيل عقله، فتحجج بأن الحياة باتت تعتمد على الآلة حتى في أبسط الأمور. عندها أدركت أن المسألة لم تعد مجرد كسل فردي، بل أصبحت عادة يومية يتربى عليها جيل كامل. صرنا نترك للعقل أقل القليل من الجهد، ونوكل كل شيء إلى الأجهزة والتطبيقات والآلات، حتى العمليات التي لا تتطلب أي بحث أو عناء. ومع الوقت، يتحول هذا الاعتماد المستمر إلى نمط حياة يضعف الذاكرة ويقتل مهارة التفكير السريع، ويجعل عقولنا أسيرة أدوات بين أيدينا، لا تعمل إلا إذا عملت هي.
قرأت في أحد المقالات التي تتحدث عن ضعف التفكير لدينا وكسل العقل أن دراسة أجرتها جامعة ستانفورد الأمريكية خلصت فيها إلى أن «الاعتماد المفرط على التقنية يضعف قدرة الإنسان على حل المشكلات المعقدة التي تحتاج إلى تفكير إبداعي. فكلما لجأنا إلى الأدوات التقنية لإنجاز أعمالنا اليومية، تراجعت قدرتنا على ممارسة التفكير النقدي بأنفسنا».
قد لا يكون هذا الكلام الذي خلصت إليه دراسة الجامعة بحاجة أصلا إلى دراسة، فهو أمر بديهي يعرفه الجميع تقريبا؛ فهو يؤكد المقولة القائلة بمبدأ «يضمر العضو غير المستخدم ويضعف» ويسند هذا المبدأ إلى داروين الذي عنى بكلامه هذا أن أي عضو من أعضاء الجسم لا يتم استخدامه فإنه يضمر ويمكن أن يموت. ويأتي في أعلى مراتب تلك الأعضاء الدماغ الذي يمكن أن يؤدي عدم استخدامه إلى الضمور والخمول والكسل وقد يؤدي ذلك إلى الموت الدماغي، وهو ما أثبتته الكثير من الدراسات الحديثة منها تقرير نشرته الـ «بي بي سي» مؤخرا ربط بين الأمراض العصبية مثل الخرف والزهايمر والجلوس لساعات طويلة أمام التلفاز أو الكمبيوتر وأيضا الاعتماد على الآخرين في تلقي المعلومات واتخاذ القرارات يسهم بشكل كبير في الإصابة بأمراض نفسية وأمراض الخرف في سن مبكرة من عمر الإنسان.
هنالك عوامل كثيرة ساهمت في جعل حياتنا كسولة بكل نواحيها الجسمية والعقلية، ومن هذه العوامل كثرة المساعِدات على الكسل مثل الأجهزة الإلكترونية والتقنيات الحديثة، التي بقدر ما أسهمت في جلب بعض الراحة والسعادة للإنسان، إلا أنها في الوقت ذاته ساهمت في إضعافه، وأدت إلى تعاسته وشقائه، وجلبت له الكثير من العلل والأمراض، مثل زيادة الوزن، ضعف التركيز، والخمول الذهني والجسدي، الأمر الذي يبرز أهمية تنمية القدرة على التفكير النشط والحركة المستمرة للحفاظ على صحة الدماغ والجسم معًا.
هذه الأعراض والأمراض والعلل تبقى لوحدها في كفة، وتعادلها في الكفة الأخرى الأسقام النفسية التي تفتك بالإنسان نتيجة إفراطه في الاعتماد على التقنيات الحديثة، خصوصًا وسائل وأدوات الذكاء الاصطناعي الحديث، التي ألقت برصاصة الرحمة على قدرات الإنسان الطبيعية، إذ أصبح يستخدم هذا النوع من الذكاء بحجة أنه سهل ومريح، متناسيًا أن الاعتماد المفرط عليه يُضعف التفكير النقدي، ويحد من الإبداع والقدرة على اتخاذ القرارات الذاتية. ومع مرور الوقت، يتحول هذا الاعتماد إلى عادة تكسب الفرد الخمول الذهني والكسل النفسي، فتتراجع مهاراته في حل المشكلات، وتضعف قدرته على مواجهة تحديات الحياة اليومية، بينما تتفاقم مشاعر القلق، التوتر، والاكتئاب نتيجة شعوره بفقدان السيطرة على عقله وحياته، فيصبح الإنسان أسير أدواته التقنية أكثر من كونه سيدًا لها.
قد أتفق مع مَن يرى أن الآلة أسهمت في حل كثير من مشكلاتنا اليومية وجعلت حياتنا أكثر يُسرًا وراحة، غير أن المبالغة في اختراع ما يريح العقل ويهمّشه حتى يصبح في خانة المهجور أمر قد تكون عواقبه غير صحية على الإنسان. فعندما نُسلِّم للآلة زمام كل شيء ونترك لها التحكم بشؤون حياتنا، فإننا نسلب أنفسنا ميزة العقل التي تميزنا عن سائر المخلوقات، لنغدو كائنات تسير بلا وعي، أو بعقل مُعطَّل لا دور له في توجيه مسار الحياة اليومية.
عبدالله الشعيلي رئيس تحرير جريدة «عُمان أوبزيرفر»
