كَدم مصير الأرواح

05 مارس 2024
05 مارس 2024

كَدم.. المدينة المقدسة كما أُسميها، كادت أن تذهب طَي النسيان بفعل سرعة التمدن الذي أحدثه العالم الجديد، العالم.. الذي فسخ كل ما هو قديم عاشه أسلافنا، وجاءهم من أزمنة بعيدة لا تكاد تتحرك تفاصيلها إلا يسيرًا، إلى عالم متسارع يكون أحيانًا غريبًا علينا من سرعة التحولات التي يحدثها. كدم.. لم تكن بعيدة عن هذه التحولات، فقد ظهرت أفعال حداثة العالم الجديد بسلبها وإيجابها على آثارها الباقية منذ آلاف السنين، وأخذ التمدن يأكل جزءًا كبيرًا من آثارها ويُحَوِّر في طوبوغرافيتها.

ولِمَا تحمله هذه المدينة من أهمية بالنسبة للتاريخ الحضاري العماني، وخوفًا عليها أن يبتلعها جَوْف التاريخ، فقد اهتم بها والدي خميس بن راشد العدوي، وشرعت معه في عام 2020 بتوثيق المدينة، ووضع خطة توثيقية منهجية واضحة، وهذه الخطة بمجملها العام تنقسم إلى شقين: الأول التوثيق الميداني، وهو عمل نقوم به خلال الإجازة الأسبوعية في الشتاء، في هذا العمل نحاول توثيق جميع الآثار الموجودة في كدم، وفق مربعات جغرافية مقسمة، كل مربع أعطيناه اسمًا معينًا، ومن المأمول أن ينتج هذا العمل كتابًا موسوعيًا. الثاني.. التحليل الحضاري، وهو مرتبط بالعمل الميداني، نقوم عبره بقراءة الظواهر الموجودة على أرض الواقع، ونحاول مقارنتها بظواهر مشابهة لها في أماكن مختلفة، أو نرجع إلى كتب المختصين في علمَي الحضارة والآثار، ونكتب عنها مقالات كلما توفرت المعلومات الكافية.

المقال .. يأتي ضمن السلسلة التوثيقية التي أكتبها عن مدينة كدم، إذ أضع بين يدي القارئ ما ذكر في معنى كلمة «كدم» عند الباحثين والمهتمين بعلم الحضارة، مع تبيين سبب وجود التشابه في الاسم الجغرافي لكدم في أكثر من مكان.

ذكر صالح الحكيم في كتابه «الحياة الدينية في المجتمع الأوغاريتي في الألف الثاني قبل الميلاد» بأن كَدم تعني (مصير الروح)، ويشرح معنى كلمة كدم قائلًا: (أما عن مصير الروح بعد الموت، فيرتبط الأمر ببقاء الجثة في العراء أو دفنها. فإن بقيت في العراء تفسخت، لكن الروح تخرج من صدر الإنسان على شكل طائر يطير باتجاه مغرب الشمس، ويبدو أنها تلازم الشمس شروقًا وغروبًا، ويمكن لها أثناء النهار خاصة التحول إلى روح شريرة تهاجم الأحياء، وتسبب لهم الأذى والمرض، وأحيانًا قد تسبب الموت). وكذلك ذكر والدي في مقاله «كَدم.. أقدم عاصمة لعمان»، المنشور بجريدة «عمان» 24 يناير 2021: (بأن كدم.. اسم جبل بداخلية عمان) وأضاف: (جبل كَدم.. واجهته كصدر طائر ضخم ناشر جناحيه، وكَدم باللغة السلوتية.. الطائر الذي يرفع الأرواح إلى السماء). الباحثان يتفقان في المعنى السومري للكلمة بأن كدم تعني (مصير الروح)، فعند ربط المعنى بالواقع نجد قوليهما مكملين لبعضهما البعض، فجبل كدم بعمان عند الوقوف أمامه، تراه متجسدًا كطائر ضخم ناشرًا جناحيه. وعندما يقول الحكيم: إن الروح تخرج من صدر الإنسان على شكل طائر يطير، فهذا تعبير تخيلي للروح، وفي ظني أنه لا يعلم أن هذا الطائر يوجد له شبيه مادي في عمان. والذي يذهب إليه والدي بأن كلمة كدم مرتبطة بالجبل الذي سمي بجبل كدم، والذي يشبه الطائر الضخم. وقد بيّن الحكيم حركة الطائر فقال: (باتجاه مغرب الشمس، وتبدو كأنها تلازم الشمس شروقًا وغروبًا). وعندما نُسقط هذا المعنى على جبل كدم نراه فعلًا يوجد في الجبل قمة تسمى قرن كدم، منحنٍ كأنه ساجد باتجاه الغرب، وأيضًا الشمس تلازمه شروقًا وغروبًا.

ذكر نائل حنّون عن مصير الروح بعد الموت في كتابه «الحياة والموت في حضارة بلاد الرافدين القديمة» وقال: (لقد أُطلقت في اللغة السومرية كلمة كِدم للدلالة على روح المتوفي أو شبحه، ولم تظهر في النصوص المسمارية المكتشفة حتى الآن الأشكال الصورية أو المسمارية الأولى لهذه الكلمة، وفي نصوص الألف الثاني قبل الميلاد تظهر هذه الكلمة مكتوبة بثلاث علامات مختلفة، وجميعها تعني الروح، وفي غياب الأصول الصورية والقديمة لهذه الكلمة ذهب بعض الباحثين إلى أنها مركبة من كلمتين سومريتين هما: «كِك» بمعنى الظلام، و«دِم» بمعنى كائن، مخلوق، وبهذا يكون معناها كائن الظلام)، وأما والدي كما أخبرني مشافهةً فيتفق بأن «كدم» تتكون من مقطعين؛ لكن من «كِ» بمعنى الأرض، و«دم» بمعنى الكائن، وهو هنا الطائر، وتعني أرض الطائر الذي يرفع الأرواح، وأرى بأن نائل حنّون يتفق مع والدي والحكيم عندما قال: (كدم دلالة على روح المتوفي أو شبحه). وكلا التشبيهين لمعنى خروج الروح كان على هيئة طائر كما يذهب والدي والحكيم، أو على هيئة شبح كما يذهب حنّون، فجميعهم يصبون في المعنى العام ذات لكلمة كدم بأن الروح تخرج وتصعد للأعلى، وأما عن وسائل طلوعها للأعلى على صفة شبح أو طائر فهي عائدة إلى نظرة الإنسان القديم، إذ كان يصعب عليه أن يتخيّل خروج الروح من الجسد بدون عوامل مادية محيطة به.

اشتغل الإنسان منذ القدم بمحاولات المواءمة بين الجغرافيا والنص القديم، خاصةً النص الديني. هذه المواءمة ومحاولة ربط النصوص الدينية والتاريخية بالجغرافيا نشطت أثناء النهضة التي عاشتها الحضارة الغربية، وأبرز من عمل على ذلك إدوارد روبنسون الملقب بأبي الجغرافيا التاريخية، وهو مؤسس علم الآثار التوراتي الحديث، ويعدّ رائدًا في «علم الآثار الكتابي». قام برحلات إلى الشرق الأوسط، وكانت أعماله محاولة لتحديد المواقع الجغرافية للأماكن المذكورة في الكتاب المقدس بدقة. وفي عالمنا العربي.. كمال الصليبي هو الأشهر في محاولات ربط الأماكن المنصوص عليها في الكتب الدينية بالواقع، ولديه أكثر من كتاب في ذلك، منها: «خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل» و«التوراة جاءت من جزيرة العرب».

بالعودة إلى مفردة «كَدم»، نجدها ذُكرت في النصوص المسمارية في سياق نص ديني يتحدث عن عقائد ما بعد الموت، وهو ما أعطى المفردة مكانة لغوية عميقة، خاصة أنها ارتبطت بطقس ديني، مما يجعلها أكثر بقاءً عن غيرها من المفردات. ومما يدل على ذلك.. ما ذكر حنّون في المرجع السابق: (وفي نصوص العصر البابلي القديم، كُتبت أيضًا بالمقاطع الرمزية السومرية «ك.دم»). المفردة كما أنها تحمل قوة معنوية وطقسية جعلتها تُذكر في أقدم النصوص الحضارية التي عرفتها البشرية. أيضًا للمفردة مكانة جغرافية، إذ -حتى الآن- حصرتُ ثلاثة أماكن تحمل اسم «كَدم»، اثنين في عُمان وهما مترابطان: الأول.. «مدينة كَدم» التي نعمل على توثيقها الآن، والثاني.. «سكة كَدم» وهي طريق قديم ببهلا موصل إلى كدم. والثالث.. منطقة كدم بمديرية حيدان في محافظة صعدة بشمال اليمن، وهذه الأخيرة يوجد بينها وبين مدينة كدم العمانية تشابه كبير من حيث الجغرافيا. وأكثر ما شدني في تشابه المنطقتين وجود منطقة تسمى «غمر» بقرب من منطقة كدم اليمنية، وأيضًا توجد بلدة بداخل مدينة كدم العمانية بذات الاسم، قريبة من معبد «ني صلت». فهل هذا التشابه جاء صدفة؟

ما أذهب إليه في سبب وجود كَدم بأكثر من مكان هو أنه عائد لأسباب تعكس تفاعل البشر مع الجغرافيا والتاريخ والثقافة واللغة عبر الزمن، منها:

- الاستعمار والاستكشاف.. في كثير من الأحيان أطلق المستكشفون والمستعمرون أسماء من أوطانهم على الأماكن الجديدة التي اكتشفوها أو استعمروها. على سبيل المثال.. يوجد عدد من المدن والبلدان تحمل اسم «لندن» من العالم، نتيجة التوسع البريطاني.

- الدين والأساطير.. إن الأماكن المقدسة أو التي لها أهمية دينية أو أسطورية قد تُعاد تسميتها في مناطق مختلفة، احترامًا أو تكريمًا لتلك الأهمية، أو بفعل قوة وهيمنة الدين الذي يعتنقه الناس.

- اللغة واللهجات.. السيادة اللغوية التي تأتي بفعل الهيمنة الاستعمارية والدينية قد تؤدي إلى تشابه في الأسماء بين مناطق مختلفة.

- الهجرة.. غالبًا الهجرات تحدث بشكل جمعي، ومنها يتحقق التشابه في الأسماء الجغرافية، ومن أشهر الهجرات المعروفة للعالم: هجرة العرب إلى الأندلس، وهجرة الأوربيين إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

- العوامل الطبيعية والجغرافية.. في بعض الحالات يمكن أن تُسمى الأماكن بناءً على الخصائص الطبيعية أو الجغرافية المماثلة، وهو ما وجدته في التشابه بين كدم اليمنية وكدم العمانية من حيث التضاريس.

ربُما لا تكون جميع هذه الأسباب متضافرة لتسمية المنطقتين في عمان واليمن بكدم، لكن قد لا تخرج عن واحد منها أو أكثر.

عبدالرحيم العدوي كاتب عماني وباحث في الآثار