"قبل أن نسقط في البحر" وحدة القصة أم وحدة المجموعة؟
أتذكر ذات يوم جمعني بالكويت لقاء بالكاتب العراقي الكبير محمد خضير الذي تأثرنا بجمال قصصه وخاصة مجموعته المتميزة عربيا "المملكة السوداء"، كان خضير يذهب إلى أن القصص في أي مجموعة من المهم أن يجمعها موضوع واحد، لذلك -حسب وجهة نظره- ستبنى القصص على التنويع من داخل هذا الموضوع الجامع. وكان رأيي أن كل قصة من المهم أن تكون مستقلة، وهذا ما ميز القصص مثلا عن مجموعة أخرى من أنواع الأدب، وطبعا للأستاذ خضير مبرراته، كما أني أقرأ برحابة المجاميع القصصية التي يجمعها موضوع واحد، ولكن أميل أكثر إلى تلك المجاميع التي تشكل فيها كل قصة كيانا مستقلا صيغت بعناية ودربة. على أن يكون الجامع الإنساني هو ما يلم شملها وليس وحدة الموضوع، وقد استشهدت بقصص الكاتبين الفلسطينيين غسان كنفاني ومحمود الريماوي. فكنفاني مثلا لم تكن قصصه فقط عن فلسطين إنما كان الهم الإنساني أبرز ما يجمعها فترى في قصصه إلى جانب الفلسطيني، المصري والعماني. وتكشف مواضيع قصصه عن تعدد على أكثر من مستوى، حين يكتب مثلا عن المعلمين والبوابين ومختلف مزاولي المهن اليدوية والإدارية.
المجموعة القصصية الجديدة لسلطان العزري "قبل أن نسقط في البحر" من إصدار منشورات مجلة نزوى 2020.
تندرج في هذا السياق، حيث إن كل قصة فيها مستقلة موضوعا وأسلوبا عن القصة الأخرى، وتحمل تأويلها الخاص وأسلوبها وقيمتها الفنية، وقد كتبها سلطان بعد سنوات طويلة من مجموعته الأولى، وقد تميزت بهذه الخصوبة إلى جانب مستواها وقيمتها الواضحة، حيث إن كل من قرأها أثارت عنده مجموعة من الأسئلة، وقد شهدت مكتبة لوتس مؤخرًا لقاءً ثقافيًا حول هذه المجموعة وكان جميع الحضور يشيدون بها وهناك من فصل أكثر في تبيان قيمتها الفنية، كما فعل كاتب هذه السطور.
فالقصة الأولى مثلا التي حملت عنوان "الرائحة" نجد أن بطل هذه القصة هو شيء لا يرى "رائحة"، إنما يحس وبواسطة حاسة واحدة وهي حاسة الشم. لذلك فإنها تقبل مجموعة كبيرة من التأويلات، وذلك حين تكون هي المحرك لكل مكونات القصة. ألا يمكن مثلا أن الكاتب يقصد بها رائحة الفساد الإداري؟ هذه الرائحة حين تظهر أول مرة يتأفف منها المجتمع فيقوم الناس بتغطية أنوفهم ولكنها مع الوقت، وحين تتمكن من الحياة "أحستها الوجوه مألوفة، ورمت الأغطية عن وجوهها".
وفي القصة الثانية "خيل شنون" يحاول الحداد شنون أن يقرب التفاوت بينه وبين الآخرين عن طريق اقتناء خيل مطهمة. ولكن كل ذلك كان يجلب له الشقاء، ويتحول إلى مصدر سخرية حتى من الأطفال، هذه القصة رغم مأساويتها تبعث على الابتسام لكل من يقرأها، وقد تمكن الكاتب من أن يضفي عليها لسمات ساخرة وخاصة في ما يتعلق بالحوارات بينه وبين محيطه التفاعلي. القصة رغم محليتها –كبقية القصص- إلا أن بعدها الإنساني يضفي عليها ملمحًا فنيًا عاليًا.
هذه القصة تنفرد عن سابقتها بالوضوح، في حين كانت قصة الرائحة خفية ورمزية تكون قصة "خيل شنون" كل شيء واضح فيها، وخير ما يعبر عن هذا الوضوح العبارة التالية: "ذلك اليوم أرسلت الشمس الحياة صافية إلى السوق".
في قصة "قصيدة الكورنيش" نكون مع مشرد يعيش حالة وحدة، ولكنه رغم ذلك "يحاول خلق متعته برؤية الأشياء البسيطة" لذلك فإن الوصف الخارجي لهذا المعتوه هو العنصر البارز في القصة، ومن خلال هذا الوصف نعرف طبيعته وتفاصيل كل ما يراه، فهو رغم كل هذا التشرد الذي يبدوا عليه، إلا أنه يعيش حريته، وربما هذا هو سر وحدته. لذلك فإن القاص هنا استثمره في صياغة قصته، وكأنه بذلك يقول لنا إنه حتى هذا الإنسان الهامشي الذي تعبر حياته كأي شيء يستحق أن نقف أمامه ونتأمله، ونشعر بما يشعر به: "تحلق أمامه نوارس منتعشة بتيارات الهواء الرطبة وأشعة الشمس الذهبية، يتحين مرور كتل الحديد المستعجلة على الكورنيش، يقف أمامها وهو يجرب شعر رأسه الكث والقذر".
في قصة "إجازة حقيبة" يحاول سالم الطرف أن يحقق أمنيته بقضاء إجازة خارج البلاد، وكانت الفقرة الأولى من هذه القصة تعرفنا على محتويات حقيبة السفر، التي هي بطلة هذه القصة، هذه الحقيبة التي يحتار أين يضعها تكون مصدر تفاعل صحفي وإعلامي حين يتركها على مدخل عمله، على أمل أن يخرج من هناك ويتجه رأسا إلى المطار. تنم محتويات الحقيبة على ما يعانيه بطل القصة من فقر وخلو عاطفة الأمر الذي ربما لم يأهله حتى للزواج، لذلك كان يجد في السفر تعويضا مؤقتا، وهذا ضمن ما يمكن أن تحتمله القصة من تأويلات.
في قصة "اهتراء" نجد علي الذي "يعتنق مبادئ الماركسية اللينينة وضرورة ثورة الجياع والفقراء" نجده لا يتورع عن ممارسة أحط وأقذر التصرفات الإنسانية، وكأن تلك المبادئ لم تكن عنده سوى شعارات خارجية لا أساس لها في نفسه.
في قصة "غياب" ومن خلال فقدان الذاكرة، يكشف لنا السارد عن تفاصيل دقيقة من الحياة القروية، والطرق الوعرة التي يشقها سائقو حافلات النقل في الشوارع الرابطة بين العاصمة والقرى، وكأن هذا الفقدان يتم تعويضه وكشفه بطيئا عن طريق الوصف البانورامي الخارجي، مع وجود حبكة هادئة تنكشف مفاجئة في نهاية القصة.
وفي قصة "أغنام" يستخدم الكاتب تقنية أقرب إلى تقنية ألف ليلة وليلة، حين تتوالد مجموعة من الحكايات من قلب الحكاية الأم، وهي قصة بسيطة تتعلق بموظف يكتشف حين يعود إلى قريته أن مزرعته قد استوطنتها الأغنام، فيكون هذا الفعل البسيط مدخلا لمعرفة الكثير من قصص الأغنام في التاريخ العماني، وكأن هذه الدابة الهادئة والمحايدة يمكنها أن تشكل مادة درامية خصبة يتفاعل معها حتى التاريخ المحكي المنسي.
