غذاء الروح في الزمن الجديد!

14 يونيو 2022
14 يونيو 2022

نلومُ زماننا! ومن هذا الذي لا يلومُ زمانَه! قد يتحاذقُ مُجادل ليرميك بالسهم الميّت الاعتيادي: لم نفسَك، لا تلم زمانَك. هل هذا يعفي الزمان من اللوم؟ هل اتخاذ موقف يائس أو غاضب تجاه تعاليم الزمن الجديد، وابتكاراته النفسية فعل خارج المنطق؟ لا أعتقد ولا أظن، هذا الزمان بحاجة للكثير من اللوم.

في مرحلة زمنية سابقة كانت الموسيقى تُسمى غذاء الروح. انغرست حفلات أمُّ كلثوم في ذاكرة الأجيال، ويتردد صوت المعجب الخارق [للست] في عقولنا. [عظمة على عظمة على عظمة يا ست!] نعم، عظمة على عظمة. يمكن أن نطلق صفة غذاء الروح على أغنيات كوكب الشرق، التي أيضا كانت تستحق أن تُسمى كوكبًا. في زمان كذلك، ماذا كان يفعل الإنسانُ؟ قبل هذا الطوفان من الخيارات المرئية، وما جلبته الشاشات من دهشة، وفتنة للزمن الجديد؟ كان يقرأ، وهو غذاء لعقله، وكان يسمع الكثير من الأغنيات، وقتها يشتكي الشاكون من ضحالة المقروء، بل ووصل الحال ببعضهم إلى اعتبار أنيس منصور مثلا [ثرثارا] لا يستحق أن يُقرأ له، ماذا عساه أن يقولَ الذي يعيشُ في زماننا، هذا الزمنُ [التويتري، اليوتيوبي، التُكْتُكي، السنابي، الانستجرامي]. لا تلم الإناء على ما فيه، وما ألومه الآن هو ما في الإناء، وقبل أن يقفز لي متحاذقٌ آخر ليقول لي المقولة المقرفة الضحلة التي يُبدأ بها النقاش (لا تُعمم) سأقطع إطلاق التعميم، وسأقول: لا أعمم.

بماذا تُغذى الروحُ في هذا الزمن الجديد؟ بالكثير من الأنا، والاستحقاق. هذا هو الرائج الآن، والفرديةُ الفلسفيةُ التي كانت في يومٍ من الأيَّام حلم يقظةٍ لأجيال خلت، أصبحت الآن أحد شروط البداهة الرائجة، الجميع فرديٌّ في هذه الأيَّام، ويا عجبَ الدُنيا، ما كانَ [مَحلومًا] به أصبح [منطوقًا]، ومكتوبا، [ومسنوبًا] ومُتَكْتَكًا. ثقافة الاكتئاب الوجودي والبحث عن الحقيقة تحولت بخوارزمية عارفٍ إلى تعزيزٍ يوميٍّ لانحيازاتك المُسبَقة، لم يعد عليك أن تبحثَ كالسابق، عن إحدى تناثراتك النفسية، والشعرية، والعقلية، كُل شيء يعملُ الآن في صالحِ مشاكلك المُسبقة، ولا يهمُّ، أن تكون سيئًا، أو مُقرفًا، أو مريضًا، أو متهافتًا، أو مصيبةً تمشي على قدمين، هُناك مصيبة تُشبهك في منصةٍ من المنصات الإلكترونية وسوف تتولى تغذيتك على طريقة الزمن الجديد، كُن سيئا، ولكن اشعر أنَّك طبيعي، لا تغيِّر نفسك، العالم هو الذي عليه أن يتغير من أجلك، والأهم عليك أن تستعد للتخلي عن كُل الذي لا يعجبك، فالافتتان بالذات بكل خطاياها إحدى سنن هذا العصر الجديد، هو وعلفه الذهني الذي لا تتوقف فيوضُه عن الانهمار!

من المؤسفِ أن يصلَ الحالُ بالإنسانِ إلى تصديق الخطاب المُحافظ، ذلك الذي يلومُ الأفكار لأنَّها أفكارٌّ في حد ذاتها. من المحزن أن يصلَ الحال بالعقل المثقف، الذي يزعمُ فهمًا لا بأس به بظروف العقول في زمنه، إلى تصديق ما يقوله الضالعون في اليأس، إنَّ الأفكار في حد ذاتها تشكّل معضلة كبيرة، ولها ضحايا، وتيَّار تغذية الذاتية هذا واحد من هذه الأغذية العقلية التي أعُلنُ في هذا المقال البائس يأسي تجاهها. ماذا عساه أن يحدثَ لك وأنت تغرقُ ليل نهار في كل ما يعزز ذاتيتك! أنت تستحق! تغير الزمن الجديد، ومن كلمة [أريدُ] التي شكَّلت مرتكزا لحركة التحرر الفردي، إلى كلمة [أستحق] التي عززت اكتفاء المرء بذاته، لقد أصبح من العيب الكبير في الزمن الجديد أن تعترف بخطئك، لا داعي لفعل ذلك، يمكنك أن تعيش سعيدا في وهمك وأن تتبع دجالي دغدغة المشاعر، والمُعلين من شأن ذاتيتك حدَّ إدمانِك الجسدي، والهرموني لتلك المنصات التي جعلت منك كائنا شاردًا، ومُضحكًا، ومؤذيا، ومنكفئًا على ذاتِه، سعيدًا بكل ذلك، وكأن إدمانًا جديدًا يلوح في الأفق ولكنه هذه المرة لا يلعب على مستقبلات شبيهة في دماغك، إنه ينحتُ مساراته الذهنية في عقلك عبر الإقناع اليومي، أنَّك تستحقُ أن تكون سيئا، وأن العالم عليه أن يتعايش مع سوئك، وأنانيتك، والقرف الذي تنثره بكرم بالغٍ على كُل إنسانٍ حقيقي تعرفه. هذا ما وصل إليه حالُ غذاء الروح في هذا الزمن الجديد، ولأكون رحيمًا بالأفكار التي ألومُها، فإن المشكلة ليست في الإناء، وإنما في الذي وجد هذه الآنية مجالا ليطبخ الحلوى لكل الجائعين روحيا، وكأن السكر المغلي طعام لن يفتك بك في نهاية المطاف، ولكن هل هذا ما تأكله العقول؟ نشوة السُكَّر، ونشاط يوم مُنتج وعودة إلى عزلتك التي تكتفي فيها عن كل ما عداك، كل هذا العلف الإلكتروني يكفي لكي تعود إلى منزلك مشحونا بالوهم، تنتظر اليوم المجيد الذي يرضخُ فيه العالم لاستحقاقِك الهائل، والذي يلوي فيه كل إنسان حولك حياته لتناسبك أنت فقط، لم لا! فهذا العمر لا نهاية له. كان العالم يهزأ بكل الذين يقولون: أنت تستطيع! في هذا الزمن الجديد، هؤلاء أثبتوا نبلهم أمام كل متاجرٍ بالاستحقاق، يقول لك: أنت تستحق! أستحق ماذا؟ ومقابل ماذا؟ هُنا سيصمت الكلام، فالجرعة وصلت إلى عقلك، لا داعي للتفنيد والتحليل، هذه [شُغلةٌ] تسبب القلق، وما الحاجة إلى القلق في هذا الزمن المريح، المليء بالكربوهيدرات العقلية، والسكر المنثور على الأرصفة. أن تستحق أن يحترم أحدٌ عقلك وأن يقول لك: الأمر نسبي، وفي هذا العالم عليك أن تكون منطقيًا!