عن الأدب كوثيقة تاريخية
أضاف الشاعر المصري المعروف أحمد شوقي كلمة " البريد" للدلالة على التفاصيل الواقعية، في مقابل كلمة "البرق" للدلالة على ما فوق ذلك من انتشار وذيوع؛ في مطلع قصيدة ملحمية طويلة صاغها في وصف ما وقع لدمشق من تدمير على يد الفرنسيين؛ إذ يقول في البيتين الأولين للقصيدة:
لحاها الله أنباء توالت- على سمع الولي بما يشق
يفصلها إلى الدنيا "بريد" – ويجملها إلى الآفاق "برق"
فالبريد الذي كان يصله من دمشق يفصل الأحداث الدقيقة لهذه الكارثة، بينما البرق الذي من طبيعته أن يكون مختصرا وشاملا وخاطفا، يجمل هذه التفاصيل ويبثها عنوانا كبيرا في أفق العالم.
بعد ذلك تتفرد القصيدة الطويلة في وصف أهوال ما فعله الجيش الفرنسي بدمشق. يذكرنا مثل هذا الأسلوب بتلك القصائد الملحمية العربية الخالدة، كبعض قصائد أبي الطيب المتنبي في ذكر معارك سيف الدولة، وقصيدة فتح عمورية للشاعر أبي تمام.
هل يمكن للأدب أن يتحول إلى وثيقة؟ إذا حدث ذلك فهي بالتأكيد لن تكون وثيقة تاريخية مغلقة على دلالات أحادية، كما يحدث في أخبار التاريخ الموثق. وذلك لأن الأدب ( شعرا كان أم سردا ) يتدخل فيه عنصران أساسيان يحرفانه عن مساره الخطي ويفتحان أسوار الدلالة فيه، وهما القابلية اللامحدودة للتأويل، وكذلك تدخل ذات الكاتب في صياغة العمل الأدبي. لذلك فإننا نرى أن النصوص الأدبية نادرا ما تعتمد كوثيقة لإثبات صحة الواقعة التاريخية، إلا في إطار الشواهد المضافة. وذلك لكونه – أي النص الأدبي- يتمنع على أن يكون ثبتا صلبا للأحداث، بسبب مرونته التأويلية أولا، وكذلك لأن ذات الكاتب (وأحيانا أهواؤه وعواطفه) تدخلان في تركيبه. وهذه ميزة أدبية مهمة يمتاز بها النص الأدبي عن النص التاريخي التوثيقي الجامد. فالأدب يبحث – عن طريق التصوير البلاغي والوصفي - في الاحتمالات والممكنات، كما أنه يعنى كثيرا بالتفاصيل الغائبة التي في الغالب لا يلتفت التاريخ إليها، إلا إذا كانت تحمل أهمية كبيرة في تغير مسار ما، مثل ولادة أمير أو فارس سيكون له شأن في قابل الأيام. فكما يقال "إن التاريخ يهتم بالملوك ولا يذكر الجند" ولكن الأدب يفعل العكس في أحيان كثيرة، إنه يهتم كذلك بالهامش والمقصي والمبعد. فحرب طروادة لأنها في الأصل قطعة ملحمة شعرية أو إلياذة شعرية خالدة ألفها الشاعر الأعمى هوميروس، قاصدا بها توثيق تلك الحرب الطويلة بين اليونانيين والطرواديين، كان من أهم أبطالها الأساسين الجندي أو الفارس آخيل. الذي ما جاء إلى الحرب أصلا إلا لكي يخلد ذكره بين الملوك.
وفي العصر الحديث ومن خلال الرواية بشكل أساس، سنجد عشرات الأمثلة التي استعانت بالتاريخ ولكنها لم تمتثل لقوانينه وثوابته بصورة كاملة، حيث وسعها خيال الكاتب وفتحتها مشاعره على إمكانات التأويل ،بحيث من الممكن أن تختلف المعاني بين قارئ وآخر. على سبيل المثال – وما أكثر الأمثلة – حين كتب الروائي الجزائري واسيني الأعرج حياة الأمير عبد القادر الجزائري قائد حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، في روايته "الأمير – مسالك باب الحديد" لقي احتجاجا من إحدى قريبات الأمير عبد القادر وأضنها ابنته إن لم تخني الذاكرة. وذلك لأنها - أي هذه القريبة- رأت بأن الكاتب واسيني قد تطرق إلى أمور كانت تراها هامشية وغير مهمة من حياته. ولكن واسيني رد بأن هذا "عبد القادر تبعي" ، وهو مختلف "عن عبدالقادر الذي تعرفينه" مع إقراره بأن الكاتب لا يجب أن يشوه الوقائع التاريخية وأن يكون أمينا في التعامل مع الخطوط العامة الأساسية، ولكن من المهم أن يستفيد مما لم يذكر لخلق عوالم جديدة. وهذا اعتراف من الكاتب بأنه يكتب أدبا، وبذلك لم يتقيد بالسير الخطي لحياة المكتوب عنه، ولكنه في نفس الوقت لم يحرف الحقائق كليا عن مسارها. فدور الأدب في تعامله مع التاريخ يكون حذرا للغاية في ملء البياضات بالأحداث، ولكنه كذلك سيبذل جهدا جديدا في البحث عن ثقوب سوداء ليملأها. وما أكثر الروايات التي استلت مادتها من أحداث تاريخية، ولكن الكاتب أضاف إليها الكثير من قدراته الإبداعية. سنجد في هذا السياق معظم روايات الكاتب اللبناني أمين معلوف، وأخص هنا روايته "سمرقند" التي تناولت حياة الشاعر الفارسي عمر الخيام، وبأسلوب مشوق، يجعلك تنسجم مع المادة التاريخية ولكنك في نفس الآن لا تقرأها كتاريخ فقط، أنما كتاريخ مضاف إليه الكثير من أبهرة الأدب. سنجد الأمر نفسه في رواية ثلاثية غرناطة للكاتبة المصرية رضوى عاشور، التي لخصت فيها الفترة الأخيرة من سيرة الحكم العربي في الأندلس، فرغم أن الكاتبة هي في ألأصل أستاذة جامعية لمادة التاريخ، إلا أنها لم تلتزم بتطبيق التسلسل التاريخي في روايتها، بل أنها لم تلتزم بكل ما تعرفه عن هذه المرحلة، بقدر ما اهتمت بصياغة مادة روائية مسبوكة ومتراصة ضمنت لها الخلود بين عيون الروايات العربية.
