عالم الورق «1»

19 مارس 2024
19 مارس 2024

أن تجلس على المكتب وتُعدّ ورقة لكتابة رسالة تتوجّه بها إلى من تهتمّ به، وأن تتهيّأ قبل كتابة الرسالة باختيار القلم المُناسب الذي يتواءم وخطّك، وأن تُفكّر ألف مرّة قبل خطّ الجملة حتّى لا تُضطَرّ إلى شطبها وتخريب السواد الذي يملأ بياض الورقة، فتلك لعمري طقوس تمتّع بها جيلنا، في الإرسال والتلقّي، فأنا من جيل انتظر ساعي البريد مرارا، وخيّب هذا الساعي انتظاره مرّات عديدة، وفاجأه أكثر من مرّة برسالة غير متوقّعة، وتمتّع بقراءة الرسالة الورقيّة، وسهر اللّيالي يخطّ الرسائل، ووقف لساعات أمام مكاتب البريد لتلقّي رسالة. أدب الرسائل أو التراسل، هو فنّ أثيرٌ له في تاريخ البشريّة أثرٌ ووقعٌ ولكن الأهمّ من ذلك أنّ له في تاريخ الأفراد -على المُستوى الشخصيّ- آثارا وآثاما ونعما، مباهج ومحازن، بشائر ونذائر.

أتذكّر جيّدا كُتب الرسائل التي كانت تُبَاعُ في محطّات القطار القليلة، وفي محطّات الحافلات الوفيرة، كانت كُتب تعليم كتابة الرسائل من أكثر الكُتب انتشارا في الفئات الشعبيّة والمتوسّطة. في قفا كلّ صفّ من صفوف الكتب في مكتبتي هنالك رزم من الرسائل التي أحتفظ بها، بعضها سريّ وبعضها معلوم وعاديّ، رسائل تخصّ تسميّات في مختلف الرتب التعلميّة التي عملت بها، رسائل تخصّ الدعوات واللقاءات، هذه الرسائل العادية ورسائل أخرى خلويّة يخلو معها الإنسان، هي تاريخ من التقلّب الإنسانيّ، هي تدوين لمختلف المشاعر والأحاسيس، رسائل العشق والهوى، روائح خيانات الأصدقاء والأحبّة، مناجاة الأصدقاء، عتاب، لوم، غضب، جدال، أوراق تصفرّ يوما بعد عقْد، وتضمّ في أحشائها مواقفي منذ بداية تعلّمي المراسلة. في جيلي يجب على الشاب أن يضبط ميقات مجيء ساعي البريد، حتّى لا تقع هذه الرسائل العشقيّة في أياد اللاعبين الساخرين أو الآباء الجادّين الصارمين، فخروج رسالة عن مسارها يُمكن أن يؤدّي إلى كوارث. في ظلّ هذه الحياة كانت تنمو قدراتنا اللغويّة والشعرية ومهاراتنا القرائيّة والكتابيّة باللغتين العربيّة والفرنسية وحتّى الإنجليزية لمن اختار خلاّ من تلك الربوع، وكانت تنمو معارفنا العلميّة والتاريخيّة والسياسيّة والدينيّة والروحانيّة، ذلك أنّ الدخول في حوار رسائلي مع صديقة أو صديق يجب أن يضعنا في المراتب العليا ويجب ألاّ تحتوي رسائلنا على أخطاء لغويّة أو معرفيّة أو على ركاكة أسلوبيّة تعبيريّة تُنفِّر الصديق وتُبعِّد الصديقة، احتوت رسائلنا شعرا وقصصا ومناقشات وآمالا وأحلاما، وهي مدوّنة الأسرار التي نخلو إليها ونختلي بها كلّما اشتدّ علينا الزمن وأثْقَلنا وقعه القاتل، المفني لآمالنا، الزمن الذي استبدل حُلْمنا وآملنا بذكرى، فتحولّنا من كائنات آملة، حالمة إلى كائنات متذكّرة واقفة على طلل الكلمات، كدمات الزمن تخفّفها تلك الأوراق- الرسائل التي خُطَت من عقود ووصلتنا بأحبّة منهم من فارق الحياة عجلا ومنهم من ما زال ظلاّ فيها، وجوه تغيّرت وأوراق بليت، ولكنها تبقى حافظة لصُور أجيال ولأحلام تطول الجبال علوّا في هذا الإطار أردتُ الحديث عن مراسلات أهمّ من مراسلاتي ومن مراسلات جيلي، هي مراسلات كُتّاب عظام، فارقت منزلتها في أقبية المكتبات، أو أمكنتها خلف جدران الكتب المصفوفة على المكتبات لتأخذ منزلتها التي تليق بها وتنضمّ إلى الكتب التي يتداولها الناس، وتخرج حياة الإنسان السريّة إلى علن النشر. مراسلات عديدة في أدبنا العربي أو في الأدب الكوني، شكّلت مراحل فارقة، وصنعت قيمة مُضافة لجوهر الأدب، منها يُمكن أن نفهم أديبا وأن نعرف أدبا، وأن نُدرك عوالم لم تكن لتتجلّى لنا خارج إطار البوح الرسائليّ. من ذلك، عربيّا، ما كان من مراسلات بين أبي القاسم الشابّي الشاعر التونسي المعروف والمشهور، وناقد قيروانيّ تونسي ليس بمعروف شأن الشابي ولكنّه كان بمنزلة الأستاذ، الملهم، والمُحاور الأريب، الذي منه ينهل الشاعر، وهو محمّد الحليوي.

وقد تضمّنت هذه الرسائل سيرة حياةٍ حقيقيّة أبدى فيها الشابّي ما يجيش بخاطره، ونقل لنا صُوَرا عن واقع حياةٍ بتفاصيلها وأجزائها التي تسقط مع الزمن وتتآكل، نقل الشابّي إلى صديقه الناقد في رسائله، حياته وحياة الكتب معه، وصعوبة تحصيل الكتاب وعسر الحياة مع أناس يغالبهم الجهل فيغلبهم، من ذلك مثلا أنّ الرسالة شفّت عن عجز الشابي وعن يأسه من الحياة، فقد كتب إلى محمد الحليوي قائلا: «لقد ضقت ذرعا بالحياة يا صاحبي ولا أخالني، إن ظلّت الحياة على ما هي عليه اليوم إلاّ ذاهبا إلى القبر أو في سبيل الجنون. إنّي أحاول أن أخطّ إليك ما تحسّه نفسي من مرارة الأوجاع وهموم الزمن الجائر فلا أستطيع إلاّ مثل هذه الكلمات المتقطّعة التي لا تكاد تبين عمّا أكابد من غصص العيش وبَأْسائه ولا تعبر عمّا يُساورني من الأفكار المدلهمة كمقطع الليل المظلم لا أذكر أن قد مرّت عليّ فيما سلف من عمري أيّام أنكد من هذه الأيّام وأشدّ»، ومن هذه المراسلات بين الشاعر والناقد، نُدرك مقاما أدبيّا يتخفّى علينا ساعة الاقتصار على شعر الشاعر أو نقد الناقد، ونُدرك أيضا خطابا رسائليّا يُقدّم لنا صورا عن الحال الأدبيّة في بدايات القرن العشرين، وعن حال البشر، وعن الأمراض، وعن التعليم، وعن مكابدة العيش، والأهمّ من كلّ ذلك نُدرك قيمة للأدب آمن بها جيلٌ وأنفق المال من قليل ما عنده ليُصدر مجلّة أو صحيفة أدبيّة يكون لها الأثر في نفوس الناس، عالمٌ مختلف تُقدّمه الرسائل، من الأوجاع وأثقال الحياة، ومن المباهج ومسرّات الدنيا, نُتابع في رسائل الشابي تحدّثه الدائم عن مرضه، وعن شدة آلامه، وعن عجزه الذي يحدّد حركته، تشفّ الرسائل أيضا عن شخص له مكانة رفيعة في أدب الشابي وهو الجهة المُراسلة، محمد الحليوي الذي لا يعرفه اليوم إلاّ نزرٌ يسير من البشر، ولكن الشابي كان يضعه في المنزلة العليّة ويشيد به، ويحثّه على الكتابة في زمن صعب، يقول الشابي مراسلا صديقه، معاتبا له: «وبعد، فإنّي في شوق إلى أخبارك وأحاديثك ونفثات قلمك وآيات بيانك. فقد وعدت أنك ستقدم الحاضرة ثم تصرم الأسبوع تلو الأسبوع والشهر إثر الشهر، ولم يأت ولا جاءنا من ناحيتك نبأ، وقد وعدت أنّك ستكتب وتكتب، عن كتابي وعن تولستوي وعن أدب الفرنجة، وأنّك ستترجم قطعا فلسفيّة وآيات شعريّة، وغيرها، ولكنّك لم تنفذ من كلّ وعودك شيئا. ما هذا أيّها الصديق؟ إنّ تونس لفي حاجة إلى أبنائها الذين تتدفّق في دمائهم عزمات الفتوّة ونخوة الشباب ونشوة الأحلام». هذه صورة أولى من أدب ليس كالأدب، ومن نوعٍ في الكتابة أخذ في قديم الزمن المكانة الأسمى، وتحوّل شكلا دارجا في الكتابة، وسع الدواوين والأشعار والإخوانيّات والعلوم والمعارف والقصص ومختلف صنوف الأدب، وأخذ أيضا في حديث الأدب مكانة سميّة، إذ تقصّاه الناشرون بعد موات الأدباء، أو طلبوه في حياتهم لإظهار كوّة من حياة الأدباء والفنّانين قد تكون مخفيّة، ولإضاءة جوانب من حياتهم الفنيّة، وعلى ذلك ظهرت مراسلات عديدة في عالم الأدب والفنّ، ارتقت للخلود والبقاء، المراسلات الدائرة بين أديبين شهيرين، هما جبران خليل جبران ومي زيادة، المراسلات بين غسان كنفاني وغادة السمّان، وكونيّا يُمكن أن نضرب مثالين شهيرين هما رسائل فرانتس كافكا إلى حبيبته ميلينا ورسائل دوستويفسكي، ولكن هنالك كتاب في الرسائل لا ينبغي الإعراض عنه في هذا المقام، وهو كتاب فان جوخ «المخلص دوما فنست». كلّ هذه العوالم تدوّنت في ورق، قي حقائق ملموسة، يُمكن أن يتوارثها البشر، وأن يسعدوا بعد عقود أو قرون إن وجدوا مخطوطات تحوي آمال الناس وآلامهم، فكيف سنورّث واقعنا الافتراضي المرشّح للزوال بضغطة زرّ؟

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي