صُور من عالمٍ مَحجور

25 يونيو 2022
25 يونيو 2022

كيف لي أن أصدق في غِمار حفلة النسيان الكبيرة هذه أننا عبرنا غُصَّة الوقت تلك (بين عامي 2019 و2022) أحياءً إلى الضفة الأخرى من الدهر، معافين من الارتياب في كل شيء تقريبًا؛ الارتياب من المصافحة والعناق، من الطعام والشراب، ومن ماء الأنابيب حتى ماء المآقي؟ كيف عبرنا بهذه السرعة إلى اللحظة التي خلعنا فيها الكمامات عن خشومنا لكي نذوق الهواء الحرَّ من جديد ونتماثل خلاله للأمل؟

والآن، حتى وأنا أكتب هذه السطور الليلية المتأخرة، ما زلت أواري خوفًا من احتمالات الغد المجهول المفخخ بالمفاجأت، وكأننا ذهبنا جماعات لنحتفل بالنسيان مبكرين، حتى قبل أن نتأكد إن كانت ليلة الكابوس قد انتهت حقًا! ما أخشاه هو أن يكون «كوفيد-2019» ليس إلا مناورة تجربها الطبيعة الشرسة معنا لتدرك نقاط الاستحكامات في المناعة البشرية، وليس هذا بخيال شاعر فحسب. ولكن ما يخبرك به واقع الناس بعد رفع الحصار هو أن الوباء لم ينل من ثقة الأحياء بالحياة، وهذا هو نصر المرحلة المبجل، فالحياة لم تتوقف يومًا عن كونها شغل الناس وشاغلهم هنا في هذه البلاد ولله الحمد.

لقد عادت الحياة إلى دأب السوق من جديد، وإلى دبيب الكلام الذي لا يتوقف في المقاهي والمجالس، وعدنا لنتفانى في فَنائنا كما تعودنا. أما الموتى فقد عرفوا بكل السخاء والتضحية كيف يسددون ديون الموت نيابة عنا، وكيف يذهبون إلى هناك ليؤجلوننا هنا إلى غد غير مسمى وإلى حين سيحين مهما تلكأ. ومن شيم الوقت أنه يعلم السلوى، ويطور النسيان بشكل سرّي، ولقد تطور النسيان في عصرنا بشكل مخيف ومطرد حتى أصبحت عضلات الذاكرة أكثر كسلًا من أي وقت مضى، كما أننا نعلم ونُسلِّم بأننا بنو غفلة منذ كنا، وما حياتنا إلا صنيعة السلوك المزمن الذي يتحول من مجرد عادة إلى صفة تجاور أسماءنا.

لم يكن فيروس كورونا، بتلوناته وتحوراته المخاتلة، سحابة صيف مسافرة كما تخيل دعاة التفاؤل القاتل في الأشهر الأولى، عندما كان العالم يحبس أنفاسه بانتظار آخر تصريحات تيدروس غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية. لم يطل الوقت كثيرًا حتى دخلنا في الحصار. عالمٌ محجور يتربص بنفسه وتحاصره المرايا من كل الجهات، فحيثما ولَّى وجهه لم يرَ سوى ضحاياه. من يصدق شوارع مسقط وهي تسقط فجأة رهينة للصمت والسكون في ليلها العالي وكنا قد أدمنَّا على التضجُّر ليلًا ونهارًا من زحامها المحموم؟ هي مسقط، مدينة البحر والجبل، لا تصدق إلا مراياها في ليلها الصموت، تلقي نظرة على البحر الموشوم بالنجوم، فترتد إلى قلبها حسرى وخائفة تنتظر الفجر.

لكورونا ما قبله وله ما بعده. لقد أغلق الباب وراءه على فصل كامل من كتاب التاريخ المعاصر ليستأنف سيرة جديدة للزمن. وكأن المؤرخ السادر في ليله الطويل قد غفا على حين غرة ليحلم بفاصلة بين سرد الأيام المتدفق، فاصلة ستزن التاريخ من جديد وتعيد ضبط موازين القوى وتفضح الفضيحة. وكأن المؤرخ استيقظ ليجد أن التاريخ لا يكتبه البشر وحدهم، ولا تحركه الحروب والثورات وصعود الأمم وأفولها فحسب، بل هو صنيعة لعامل يكاد يختفي فينا من شدة التجلي (كما يحلو للغة المتصوفة) إنه -أي التاريخ- صنيعة الطبيعة، بأمراضها وفيضاناتها وزلازلها ومخاضها العسير منذ أن خلقها الله في ستة أيام قبل أن تحدث الأيامُ كلها. كورونا جاء ليقول للمؤرخ أن التاريخ ليس مدونة للفعل البشري وحده، بل هو مدونة لمنظومة الطبيعة كلها، بما فيها الإنسان الضئيل.

ما الذي تغير في أعماقنا السرية التي لا يُطل الغرباء عليها إلا من باب الفضول، بينما نعاني تحولاتها وصراعاتها وحدنا، في أكثر ساعاتنا ارتباكا بين عالَمين، داخليّ وخارجيّ، وبين سلطة العقل الحمض وتداعي العاطفة؟ هناك احتمالات وإجابات كثيرة، لكن ما أخشاه أن نكون قد تغيرنا لصالح القسوة والأنانية وانتفاخ الذات الكاذب.

لن تستطيع أدوات العلم المخبرية وحدها الاقتراب من إجابات أسئلة الحياة الموغلة في الذاتية ما لم يتدخل الشعر في محاورتها وتشخيصها. وما دام فيروس كورونا قد غير الحياة على هذا العالم فكيف للشعر أن يظل صامتًا إلى هذا الحد؟ أم أنه لم يستوعب الكارثة بعد؟