صمت..
كثيرون منا مميزون بظواهر صوتية؛ وخاصة في المجالس والتجمعات، يستحوذون على إدارة الأحاديث، ويلفتون الانتباه، وقد يثيرون إعجاب البعض، من الذين ربما؛ لا يملكون الكثير من الشجاعة ليتصدروا مجالس الحديث، فيجدوا في هذه النوعية من الناس الملاذ من الإحراج المباشر، أو من العتب ممن حولهم على عدم مشاركتهم بأفكارهم فيما هو مطروح من نقاشات، وينفض المجلس تلو الآخر، ويجد أصحاب الظواهر الصوتية الملاذ الآمن في كل مجلس، حتى يصاب من يحضر معهم بصورة دائمة بشيء من الملل، وربما النقد، لأن من كثرت ثرثرته؛ كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه، تعرت حقيقة نفسه، ومن يصل إلى هذه المرحلة، فقد قيمته، والفكرة هنا - وفق هذه المناقشة - تذهب إلى أن هناك مستوى معينا من الثرثرة؛ يفترض أن يقف عنده الفرد، ولا يتعداه، هذا المستوى هو الذي يحافظ على شيء يعيد إليه هيبته ومكانته كشخص.
واستكمالا للفكرة أعلاه؛ يمكن السؤال: «هل الساكت شيطان أخرس» كما يروج أم أن «الصمت من الحكمة» كما يردد البعض الآخر؟ ومن يحكم طرفي التناقض في هذه المعادلة؛ لأن الواقع لا يستغني عن كليهما؟ في قصة (اليمامة والصياد) ما يشير إلى كثير من العبرة، والقصة معروفة، وكانت تدرس في المنهج الدراسي: «يمامة كانت بأعلى الشجرة؛ آمنة في عشها مستترة» إلى أن قال: «فبرزت من عشها الحمقاء».. فلتفت الصياد نحو الصوت؛ ونحوها سدد سهم الموت» فما بين المعنى الذي تحمله القصة، وبين معنى «الصمت حكمة» ثمة مفارقة موضوعية في تباين الأهداف، ولذلك قيل: «ليس من يتحدث بصوت أعلى الأكثر خطورة، بل هو من يجعل صمته ينفذ بين جنبات الآخرين» فالصمت أبلغ من الكلمة في كثير من المواقف، وفي كلا الحالتين تبقى «الحكمة ضالة المؤمن» أينما وجدها أخذ بها، والمفارقة ذاتها يلجأ إليها من يريد أن تكون له مساحة خط رجعة كما جاء في قول الشاعر معروف الرصافي؛ ولو في شيء من السخرية: «يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرم؛ ناموا ولا تستيقظوا؛ ما فاز إلا النوم» ومعنى هذا فاللسان ليس أداة للقوة، وإنما الموقف هو الذي يحكم بأهمية أن تكون الكلمة حاضرة بقوة، أو على صاحبها أن يتوارى بها بعيدا؛ حتى لا تسقطه في موضع ضعف، فيفقد هيبته ومكانته لأن «مقتل الرجل بين فكيه» وهناك كثيرون دفعوا ثمنا باهظا بزلة لسان لم يضعوا لها حساب السقوط، «وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» كما جاء في نص الحديث على صاحبه الصلاة والسلام.
ويمكن أيضا؛ أن تكون هناك مقاربات كثيرة لمعنى الصمت: فمسك اليد عن أخذ أموال الناس؛ صمت، وقصر الخطوات عن الذهاب إلى ارتكاب المعاصي؛ صمت، وغض النظر عن أعراض الآخرين؛ صمت، وكف الاسترسال عن تشويه صور الناس باختلاف مستوياتهم الاجتماعية والاعتبارية؛ صمت، والمحافظة على السر؛ صمت، وكبت النفس عن استفراغ محصلاتها السيئة؛ صمت، والشجاعة في مقابل التهور؛ صمت، وكبح جماح القوة عند الغضب؛ صمت، والأمثلة كثيرة.
تبقى الإشكالية في كل ما تقدم ذكره، أن الثرثرة تغري صاحبها إلى حد فقدان ذاته، فلا يجد نفسه إلا في مستنقعها، ومتى ألجم بوسيلة ما عد ذلك إقصاء له، وأن من حوله يشنون عليه حربا غير متكافئة، فيمعن في الإساءة إلى نفسه أكثر، وتكون المحصلة أن الظواهر الصوتية لن تغني صاحبها، بقدر ما تلصقه بصفة ممهورة بـ «بياع كلام» وليس هناك من عاقل يسعى بإرادته الطبيعية إلى أن يلصق بجبينه هذه العلامة.
