شعر الرثاء عند شعراء الدولة النبهانية «1-2»: الرثاء عند الكيذاوي بوصفه خطابا حكائيا حزينا

04 مارس 2024
04 مارس 2024

يُعدُّ الرثاء من الأغراض الشعرية التقليدية في الأدب العربي؛ إذ إنّ دلالاته مطروقة على مر العصور، وأساليب الشعراء في تناوله متشابهة وألفاظه ومعانيه وصور الحزن متكررة بين الشعراء.

وبينما كنتُ أعدُّ دراسة عن الشعر في عصر الدولة النبهانية مرَّت عليَّ الأغراض الشعرية المختلفة التي طرقها الشعراء في ذلك العصر، ورغم تنوعها فقد شدّني غرض الرثاء كونه واحدًا من الأغراض التي صوّرتْ لنا شيئًا من الحياة في عصر النباهنة من خلال رثاء الملوك وأسرهم وبعض الشخصيات البارزة في ذلك العصر.

لقد حضر الرثاء جليًا عند شعراء الدولة النبهانية، كونهم شعراء ساروا على نظام القصيدة التقليدية في مضامينها وأساليبها، فبرز هذا الغرض عندهم مقدّمًا صورةً حزينةً عن العلاقة بين الشاعر من جهة وبين الآخر (القريب/ غير القريب) من جهة أخرى، لا سيما عند شعراء البلاط منهم الذين توسعوا في رثاء ملوك النباهنة وأسرهم، فنجد غرض الرثاء في غير موضع من دواوين الستالي والكيذاوي والنبهاني واللواح.

لكن الناظر في هذا الغرض عند الكيذاوي وتحديدًا في رثائه لأسرته يجده منبعثًا من حرقة مندفعة، وآهات مستمرة. يتحول رثاء الابن إلى فاجعة تحمل في ذاكرتها آلام السنين الممتدة، وكأن هذا الفقد نُحِتَ في صخرة القلب لا تنفك تثور مشاعرها بين الحين والآخر. كما تحمل دلالات الفقد هنا معاني الحزن، كالعادة في مثل هذا الغرض، وآلام الفراق. لكنَّ نصوص الرثاء عند الكيذاوي، لا سيما في رثاء ابنه أخذت شكلا حكائيا، يسترجع من خلاله حوادث هذا الفقد.

لقد صوّر لنا الكيذاوي أربع مراحل في استعادة فقد ابنه ورحيله عنه، راثيا إياه بنصوص مليئة بالحزن والتذكر الدائم الذي تحوّل إلى مشاهد سردية للرحيل، يأتي المشهد الأول في استحضار الناعي الذي جاء بنعي ابنه «سعيد» قبل وفاته، إذ جاءه منادٍ يناديه ويخبره برحيل ابنه: (الديوان 1/245)

ولو لم يكن عالي المحلّ لما بكتْ عليه بواكي الجن قبل مماته

بكته بواكي الجن من قبل موته بشهرين بل شهرين بعد وفاته

وليلة إزكي جاءني هاتفٌ وقد تجلّى ضياءُ الصبح في بهواته

وقال إله العرش يوصيكَ آمرا بحُسنِ العزا فاعمل بما في وصاته

فأصبحتُ ملهوف الحشا مشفقا ولي فؤادٌ يذوب الصخرُ من حرقاته

وقلتُ فما هذا العزاءُ وما الذي سيجري بهذا الدهر من نكباته

ولا زلتُ خِدنَ الدهر منتظرًا لما يحلُّ بما أهواه من بغتاته

إلى أن جرى هذا وهذا الذي أنا أحاذرُ قبل اليوم من زهقاته.

في لغة حكائية أقرب إلى السرد تتجه الأبيات السابقة مدعّمة بألفاظ من مثل: «قال وقلت»، يقوم الشاعر بسرد حكاية الناعي الذي بلّغه بقرب رحيل ابنه، مما جعل القصيدة تأخذ ألفاظًا رثائيةً حتى قبل فعل الوفاة: (فأصبحتُ ملهوف الحشا، مشفقا، لي فؤادٌ يذوب الصخر من حرقاته).

وفي مشهد ثانٍ يُخبر عن رحيل ابنه وهو لم يتجاوز عامه التاسع، متجها بالخطاب إلى ابنه الذي ودّعه طفلا: (الديوان 2/715)

وما أنتَ بالبدعِ إنْ متَّ طفلًا وإنْ كنتَ في هيئة الحسن تُدعا

ولكنّه واجبٌ مستحقٌ لمثلك إنْ ماتَ يُبكى ويُنعى

لبستَ برودَ الثنا والمحامد طفلا وما بعد جاوزتَ تسعا

ولعلّنا نلحظ فرقا في لغة شعر الرثاء في نصوص الكيذاوي بين النصوص التي يرثي بها ابنه التي تختلط الدموع بالحزن العميق الدائم وبين الحزن الوقتي في رثاء غيره من الأشخاص، إنّ لغة الفقد الطويل، والرحيل وفراق الأبناء فجّرت عواطف الشاعر قبل شعره، ففاضت الدلالات في النصوص كمدا وحزنا مستمرا.

ونجد الكيذاوي في مشهد الرحيل الأخير يصف لنا ما يعانيه، ساردا حكاية تشييعه ابنه لمثواه الأخير قائلا: (الديوان 1/499)

وما كنتُ أدري أن أرى حُسن وجهه يُهالُ عليه جلمدٌ وصعيدُ

وأُنزله في اللحد كُرها وناظري عليه بمسفوح الدموع يجود

وأحثي عليه التربّ بالكف مسرعا وقد كنتُ نملَ الأرض عنه أذودُ

وأرضى له في ظلمة القبر مسكنا إلى يوم يُدعى صالحٌ وثمودُ

فيا سوء حالي يوم عاينتُ وجهه وقد حال فيه طاردٌ وطريدُ

إن دلالات الفعل المضارع هنا تدل على وجع مستمرٍ للشاعر وكأنه يعيش الحزن لحظة قوله القصيدة، أو كأنه يحاول جرَّ الذاكرة من ماضيها إلى هذه اللحظة التي تتفجر شعرا متحدّثا عن الوداع الأخير لحظة إنزال المتوفى في القبر. هنا ينفتح النص الرثائي على استحضار الدموع والفراق لحظة التحدث والحكي، وهنا تظهر ملامح الحزن والرثاء على الراحل.

بل إنّ الرثاء حاضر عند الشاعر مطالبا الزائر بلدته أن يطوف ويسلم على قبر ابنه، وهو المشهد الرابع من مشاهد رثائه لابنه: (الديوان 2/1077)

أمعتسف الفجاج بكلّ حرفٍ أمون السير خيطفةٍ ذقونِ

إذا ما أرقلتْ بك كلُّ فجٍ أمثّ وكلّ داويةٍ وحينِ

وجُزتَ القُلّةَ الصفراءَ فانزل بأرضٍ دون مرتبع القطينِ

بأرض المحل من شرقي محليا بذات القاع ما بين الحُزونِ

وقف ما اسطعتَ إحلالًا وسلمْ على بشرٍ على بدرٍ دفينِ

على قبرٍ حوى شمس المعالي وإكسير الفهامةِ واليقينِ

إن النص الرثائي في النصوص السابقة لا يدل على الحزن والفاجعة فقط، بل يشير إلى ذاكرة شعرية مزدحمة بالحكي المستمر والوصف الشاحب الحزين، وإنّ مشهد الموت والفراق قد اختُزِلا في ذاكرة الشاعر بأربعة مشاهد: النعي قبل الرحيل بمدة، ثم التسليم بقضاء الله وقدره، ثم مشهد الدفن، وأخيرًا مشهد التذكر الدائم والحضور المستمر في شعره وذاكرته.

جاء الخطاب الذي حدّده الشاعر لغرضه متنوعًا بين الشعري والسردي وبين الوصف مستخدمًا ضمائر المخاطب والمتكلم، إنه تنويع مهم لإيصال الصوت الداخلي المملوء حزنًا وفقدًا.

ولعلَّ المصائب قد تكالبت على الشاعر في حياته، فلم يخرج من مصيبة فقد ابنه حتى أصيب في ابنته، فكان الخطاب الرثائي فيها مُكمّلا لفقد الابن، والمصيبة في إثر المصيبة فأنشد مخاطبًا ابنته متذكرًا برحيلها رحيل ابنه، المصيبتان اللتان أثّرتا في نفس الشاعر كما يقول: (الديوان 2/804)

أخوكِ مضى قدما فأحرق مهجتي فأنضجها لما لحقتِ أخاكِ

هكذا تظهر صورة الرثاء -رثاء الأقارب- عند الكيذاوي، إذ تمتزج فيه لغة الشعر بأدوات الحكي، وتبدو الذاكرة منفتحة على معاني الحزن والفراق، وإذا كان شعراء العربية قد أبدعوا وأجادوا في رثاء الأبناء، فإن الكيذاوي -في لغة مليئة بالحزن- واحدٌ من هؤلاء الشعراء الذين جعلوا من الرثاء غرضا يخلّد الراحلين ويحفظ ذاكرتهم.

خالد علي المعمري كاتب عماني