سيكولوجية الجماهير
25 نوفمبر 2025
25 نوفمبر 2025
كمشتغل في الإعلام لسنوات طويلة، يشغلني كثيرا سلوك الجماهير، سواء على الأرض أو عبر الوسائط الإعلامية والرقمية. لذلك أحرص، كلما سنحت الفرصة، على مراقبة آراء الناس واتجاهاتهم وسلوكياتهم تجاه قضايا مختلفة. وغالبا ما أجد أن أفضل مختبر لهذا السلوك هو الجلوس إلى مجموعة من الأصدقاء أو متابعة ما يجري في وسائل الإعلام ومنصات التواصل، حيث تتدافع التعليقات وتتقاطع الآراء مع كل حدث يثير الاهتمام العام. وتعود إلى ذهني دائمًا الأسئلة ذاتها: كيف يفكّر الناس عندما يجتمعون؟ ومن يقود اتجاهاتهم؟ وكيف تتكون قناعاتهم الجماعية؟
ولمحاولة فهم هذه الأسئلة، يبدو من الضروري العودة إلى أصل مفهوم «سيكولوجية الجماهير»، وهو ببساطة دراسة السلوك النفسي للجماعات، وكيف يتصرف الأفراد داخلها بطريقة تختلف تمامًا عن سلوكهم عندما يكونون منفردين. فالجماهير تتحرك غالبا بدافع العاطفة والانفعال أكثر مما تحركها الحسابات العقلية، وتتشكل مواقفها وفق المزاج العام لا وفق قناعة كل فرد.
وعند محاولة فهم هذه الظاهرة، تبرز قيمة كتاب «سيكولوجية الجماهير» لغوستاف لوبون، الذي كتبه عام 1895 عقب الثورة الفرنسية وما خلفته من اضطرابات. ورغم أن الكتاب كتب قبل أكثر من قرن، فإن القارئ يشعر بأن الكاتب يصف أحداث عصرنا. وهذا يكشف عن أن سلوك الجماهير تحكمه قوانين ثابتة تمتد عبر الأزمنة، وأن الظاهرة ليست نتاج الإعلام الحديث وحده، بل جزء من طبيعة بشرية تتكرر كلما اجتمع الناس حول فكرة أو خطاب.
ولفهم سيكولوجية الجماهير، لا بد من التوقف عند عنصرين أساسيين: الفرد والجماعة. فالجماعة تصل إلى رأي واحد عندما تتقارب مواقف أعضائها تدريجيا، ثم يتشكل اتجاه عام يبدو وكأنه رأي مشترك للجميع. وفي المقابل، يتراجع رأي الفرد عندما يدخل في الجماعة، فيميل إلى الاندماج مع الاتجاه السائد، حتى وإن كان رأيه الأول مختلفا. وهذه الحركة بين الفرد والجماعة هي لب الموضوع؛ إذ ترتفع مساحة العاطفة والانفعال عندما يقترب صوت الفرد من صوت الحشد، بينما يقل حضور التفكير الهادئ. فالآراء الفردية لا تختفي تمامًا، لكنها تفقد تأثيرها أمام قوة الجماعة التي تفرض إيقاعها.
وإذا طبقنا هذا على ما يجري في الواقع، نجد أن معظم الأحداث الكبرى من الثورات الكبرى إلى تشكل المواقف العامة في القضايا السياسية والاجتماعية نجد أنها تتحرك بالمنطق ذاته. فغالبًا ما تبدأ الفكرة عند مجموعة صغيرة تتقاسم قناعة أو انشغالًا معينًا، ثم تعمل هذه المجموعة على توسيع دائرتها وجذب مزيد من المؤيدين، إلى أن تتكون موجة واسعة من الرأي العام. وفي هذه المرحلة يبرز دور «القائد»، سواء كان شخصا أو خطابا، إذ تحتاج الجماهير إلى رمز يوجهها ويمنح الفكرة لغة مشتركة تتقاطع مع مشاعرهم.
ولا يمكن الحديث عن الجماهير دون التوقف عند العاطفة، فهي حجر الزاوية في كل قضية يتبناها الجمهور. فالعاطفة هي التي تحدد مزاج الجماهير، وتوجه قراراتها، وتحفزها على التحرك. وغالبًا ما تنبع هذه العاطفة من انتماءات مشتركة: عرق، لون، دين، لغة، أو حتى شعور بالظلم والمعاناة. ولهذا رأينا كيف لعبت الهوية العرقية دورا مركزيًا في حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، وكيف تحركت جماهير واسعة في احتجاجات «حياة السود مهمة»، مدفوعة بغضب مرتبط باللون والتمييز.
هذه الأمثلة وغيرها تؤكد أن الهوية بكل امتداداتها تظل من أقوى مصادر العاطفة التي تشكل سلوك الجماهير.ويتجلى دور العاطفة أيضا في النزاعات والحروب، حيث يتحرك الناس دفاعًا عن هوية أو أرض أو معتقد، ويأخذ الانتماء معنى عميقًا يتجاوز حدود الفرد.
وفي هذه اللحظات تظهر قابلية الجماهير للاتحاد حول فكرة أو موقف، وتستمد قوتها من شعور جمعي يشبه «الذات المشتركة»، التي تجعل الفرد جزءًا من كلٍّ أكبر.وهذا كله يعيدنا إلى أن دراسة سلوك الجماهير ليست رفاها فكريا، بل ضرورة لفهم ما يجري حولنا في لحظات التحول السريع. فالجماهير، بحكم طبيعتها، تتأثر بسرعة، وتبني قناعاتها على مزيج من الانفعال والانتماء، وتتحرك في اتجاه واحد عندما تشعر أن صوتها جزء من قوة جماعية.
ومن دون فهم هذه الديناميكية، يصبح من الصعب قراءة المشهد العام وفهم أسباب تشكل بعض المواقف أو اختفاء أخرى.
إن سيكولوجية الجماهير تفتح لنا بابا مهما لفهم الإنسان حين يتحرك ضمن الجماعة، وحين تتحرك الجماعة كلها في اتجاه قادر على تغيير مواقف كثيرة. وما نحتاجه اليوم هو قراءة واعية لهذه الظاهرة، لا للحكم على الجماهير، بل لفهم طريقتها في التفكير، وكيف تنشأ المواقف، وكيف يمكن لروح الجماعة أن تصنع رأيًا عاما قد يغيّر مجرى الأحداث، وكيف يمكن التصدي لكثير من الأفكار الدخيلة ووأدها قبل استفحالها وانتشارها.
