سهرة رمضانية حول نار "تغريبة القافر"
من عتبة مقهى "هوم لاند" :على رائحة القهوة وامتزاج أصوات آلات إعدادها بالقراءة والحديث؛ أقيم يوم الاثنين 25 أبريل 2022 لقاء عام حول الرواية الأخيرة لزهران القاسمي "تغريبة القافر"، وكان الفضاء هو مقهى "هوم لاند" بالمعبيلة الجنوبية. المقهى الذي استهلت الدكتورة منى حبراس السليمية ورقتها بالثناء عليه وعلى صاحبه - حمود الشكيلي - الذي جعل من مقهاه معلما من معالم المعبيلة، كما أشارت إلى إصداره الأخير "كتاب الدراجة الهوائية" حيث تبرز المعبيلة كساحة وممشى لعجلات هذه الدراجة المتنقلة عبر أكثر من زمن ومكان، وهو كتاب حميمي (عبر نوعي) جمع فيه الشكيلي كل ما سجلته ذاكرته وذواكر أصدقائه، إلى جانب قراءاته الخاصة، من دراجات هوائية.
ورقتان حتى أعماق الليل:
الورقة الأولى ألقاها الدكتور حميد الحجري حملت عنوان "البنية الأسطورية" أشاد الباحث فيها بداية بالرواية التي اعتبرها نقلة مهمة لمسيرة الكاتب زهران القاسمي نظرا لما تمتاز به من جدة في الطرح وطرافة في الموضوع، حين جعلت من الماء موضوعا للسرد وخلفية أساسية لبناء الأحداث، كما ركز الحجري في ورقته على "أسطرة البطل" الذي كان يتمتع بقدرات خاصة رفعته إلى مستوى (فاعل الخوارق) في محيط قريته، حيث كان يستطيع بواسطة ما يتميز به من رهافة في السمع أن يعرف مكان الماء في أعماق طبقات الأرض. و كان الأهالي يستعينون به قبل شق أي بئر أو فلج، ملتمسين من قدراته السمعية دليلا مرشدا على معرفة مكان الماء من عدمه. ولكن حميد أورد كذلك بعض الملاحظات النقدية تتعلق بتسرع الكاتب في قتل بطل الرواية سالم، وكأنما قطع عليه طريق تحوله إلى أسطورة في الضمير الجمعي لقريته. وقد تمنى الحجري لو أن الكاتب استطرد قليلا – أو انتظر – من أجل معرفة أثر ما قام به بطل الرواية من خدمات مصيرية أفقدته حياته، من أجل أن يتمتع أهل قريته بالماء بعد رحيله المأساوي، وذلك لأن الرواية وقفت عند حدود غرق البطل سالم الذي جرفه تيار الماء وهو في طريقه الحثيث للبحث عنه لإرواء قريته "الظالم أهلها". وقبل ذلك دخل البطل في صراع طويل – نفسي وعضلي - في وجه نفور أهل قريته واستهزائهم، والأهم في وجه صلابة الطبيعة، حيث بدأت الحياة وكأنها ستتلاشى وتندثر بسبب شح الماء، الأمر الذي وضع البطل سالم - وحواسه الخارقة من ورائه - أمام مسؤولية كبيرة وتحد وشحذ عال للهمم في النبش المحموم والبحث المضني عن مكامن الماء تحت القشرة الجافة للأرض.
الحضور الطاغي للماء:
كان الماء – إذن – حاضرا بقوة رغم شحه، ليس فقط في أجواء الرواية، إنما كذلك في ورقة الدكتورة منى حبراس السليمية المعنونة بـ "تسريد الماء"، بحثت فيها عن تأويلات جديدة لما لم تره عين القارئ - وربما كذلك عين الكاتب - وفي رأيي هذا هو دور الباحث الناقد الذي ينشد الإتيان بجديد مختلف، وكان ملفتا حديث الباحثة عن ثيمة "الصوت" الذي اعترى معظم أجواء الرواية.
امتازت الورقتان بالحيوية، حين تحركت رحى حديث الحضور بعد ذلك، وجلهم كان من أصدقاء الكاتب، أو هم بالأحرى أصدقاء مقهى "هوم لاند" الحريصون على أن يكونوا شاهدين على معظم فعالياته، حيث ثمة وجوه لا يمكنك إلا أن تراها وبعضهم يأتي من مناطق خارج المعبيلة الجنوبية. حديث الحضور كان هو الآخر (مليء ماء) وقد استوقفت ورقة الدكتور حميد الحجري التي تتناول الأسطورة بعضهم، لنكون بالتالي أمام محاضرات مصغرة انبثقت من المحاضرتين الرئيسيتين.
الرواية - كذلك - يمكنها أن تكون ملحمة القرية:
من أهم ما يميز روايات زهران القاسمي والرواية العمانية عموما أنها تحاول أن تزرع أحداثا في محيط قروي متشابه ورتيب، ولكن خلف هذا التشابه تذوي أحداث جسام وهو ما يحاول الكاتب الروائي أن يتلمسه عبر الصيرورة التي توفرها الحبكة الروائية. وروايات زهران التي تنطلق عادة من محيط قروي جبلي، راهنت على التنويع في إطار هذا المتشابه، حيث نراه في كل رواية وكأنما يولد من جديد ويأتي لنا بما يجعل القراء يبحثون عن أنفسهم من خلال ما يكتبون، وهي روايات تمتاز بقوتها الشرائية الملحوظة. وفي ما قرأت لزهران من روايات لاحظت اهتمامه الحثيث باجتراح معجم قروي محلي، والبحث بالتالي في زوايا "السحاحير والمناديس" عن مفردات موغلة في محليتها، يسعى لنفخ الروح فيها وإنعاشها ونفض الغبار عنها لكي تشق طريقها في ذهن قارئ عصري ابن الألفية الثالثة وإن تشبث في مظهره بتراثه ولكنه مقيد بأوتار الفضاء الرقمي والحياة الاستهلاكية المتنامية. فمثلا في روايته الثانية "القناص" نجد قاموسا جبليا ثريا يتعلق بأنواع الأشجار الجبلية وبمختلف مفردات الطبيعة العمانية التقليدية، والكاتب بذلك يبذل مجهودا بحثيا (تجمعيا) قبل أن يفتح باب ونوافذ خياله لتدبيج روايته؛ وقد أشار حميد الحجري إلى ذلك في مستهل ورقته، متحدثا عن المجهود المعجمي المحلي المبذول في رواية تغريبة القافر. كذلك تلمست الأمر عينه في رواية زهران الثالثة "جوع العسل" وهنا أبدع الكاتب في الاستفادة من تجربته الخاصة وتمثيلها في نصه الروائي، كما أنه لم يرتكن فقط إلى ما حفظه عقله وتمرست به يداه، إنما أعمل خياله في تزويد روايته بعوالم صحراوية ومفارقات اجتماعية دعمت الحدث الرئيس في الرواية. وبذلك فإن القارئ يخرج من روايات زهران القاسمي -إلى جانب متعة الحكي- بمحصول وافر من المعلومات المتعلقة بالمفردات العمانية القديمة، خاصة وأن القاسمي يعيش بين أحضان الأفلاج والنخيل في بلدة " مس " التابعة لولاية دما والطائيين. وهو بذلك لم تجلبه العاصمة إلا للزيارات والفعاليات مع حبه للسفر واكتشاف كل جديد، ولكن يظل الحضن الحقيقي له هو بلدته " مس" متلمسا من ذاكرته العون في هزيمة الرتابة فيها، وإيجاد ماهو مختلف في إطار حياة تتميز بالمشابهة والتناسخ، وذلك بالبحث في تلافيف ذاكرة الحياة من حوله عن جديد غير مستورد، وكأن شعلته وسراجه في كل ذلك قول أبي الطيب المتنبي" حسن الحضارة مجلوب بتطرية - وفي البداوة حسن غير مجلوب".
* محمود الرحبي كاتب وقاص عماني
