سكة الحياة

02 يوليو 2023
02 يوليو 2023

قبل بضع سنين، وتحديدا قبل 3 سنوات من الآن، كانت معظم أزقة حارة العقر مظلمة ومهجورة ولا حياة فيها إلا من بعض الأيدي العاملة الوافدة التي استخدمت تلك البيوت الطينية الأثرية ملجأ لها بإيجارات رمزية لا تتجاوز في الشهر 60 ريالا أو بالكثير 100 ريال لمنزل يحمل في جنباته أكثر من 40 عاملا آسيويا.

هذا حال حارتنا القديمة حارة العقر التي أصبحت اليوم بفضل جهود شباب نزوى من أجمل الحارات التي تستقطب الزائرين.

المدهش أن حراك شبابنا كان متناغما وجماعيا لتحويل هذه الحارة إلى استثمار لم يتوقعه بالسابق أي أحد، فكانت البداية مع شركة بوارق نزوى الأهلية التي استهدفت منازل أثرية كان معظمها مؤجرا للأيدي العاملة الوافدة، ولن أخبركم بتفاصيل كم الفضلات التي تم إخراجها من الحارة ومن تلك البيوت تحديدا وكانت كميات كبيرة للغاية لم تصدقها الأعين.

هذا الحراك صاحبَه ترميم للمنازل الأثرية التي يصل أعمار بعضها لأكثر من 400 عام، متناغمة مع المساجد القديمة التي توجد حولها كمسجد الشواذنة الذي بُني قبل فتح مكة أي عام 7 للهجرة، ومسجد مزارعة الذي يعود عمره لأكثر من 1000 سنة، ومسجد الشجبي والفرض والشيخ وغيرها من المساجد القديمة العتيقة.

لقد تحولت تلك المنازل الأثرية إلى نزل بديعة وإلى مقاهٍ للقهوة وبعضها لتقديم الوجبات الخفيفة والقادم أفضل، فهذه الحارة أصبحت من أهم الحارات الاستثمارية في السلطنة، واستقطبت رؤوس أموال تجار نزوى ليصنعوا لنا مشروعات بديعة وفّرت العديد من الوظائف للباحثين عن عمل من أهل المنطقة بشكل خاص.

بالقرب من كل هذا الحراك كانت هناك سكة مظلمة بالقرب من مسجد مزارعة، تلك السكة المظلمة التي يحرسها قبر مخيف لا يُعرف لمن؟!

تقول بعض الروايات الأهلية بأنها لأعداء الحارة من بقايا الجيوش التي هاجمت عمان وسفكوا الدماء أيام الغزوات على نزوى والفتن والحروب الأهلية بسبب النزاع على السلطة ولجوء البعض للقوى الخارجية من أجل نصرته! ولكنني أعارض هذا الأمر تماما، فلا يمكن أن يدفن أهل حارة العقر المفجوعين بالألم جثث المجرمين بجانب بيوتهم ومسجدهم الطاهر مسجد مزارعة بينما يتم دفن أجدادنا بعيدا ناحية جبال حي العين!

وإنني لأجزم تماما بأن هذا هو قبر العالم الجليل أبي المؤثر الصلت بن خميس الخروصي من علماء القرن الثالث الهجري وكان من مناصري حكم الإمام الصلت بن مالك الخروصي الذي عُزِل تقريبا عام 272هـ بقيادة موسى بن موسى وراشد بن النظر، وبسبب ذلك وقعت في عمان حروب أهلية مريرة ولسنوات طويلة سفكت فيها الدماء وانتشرت البغضاء وقامت كل مجموعة تتبرأ من الأخرى لنقع في الفتنة الكبرى صراعا على السلطة للأسف.

لذا فإن تحليلي للأحداث تشير إلى تعمد تشويه سمعة قبر الصلت بن خميس من قبل مناصري عزل الإمام وخاصة حينما ألف كتبا يتبرأ فيها من موسى وراشد من خلال كتاب الأحداث والصفات وكتاب البيان والبرهان!

وكل هذه الأعمال العدائية التي كانت بين الطرفين أدت إلى أعنف خصام شهده تاريخ عمان، ولذا لا غرابة في أن قبر أبي المؤثر قد تعرض لحملات التشويه في الوقت التي كانت السيوف فيه تقطر دما.

وللعلم فإن الصباح أو البوابة الأثرية في الحارة التي تسمى صباح أبي مؤثر سميت بذلك لسكن الشيخ بالقرب منها وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن الشيخ أبي المؤثر دفن بالقرب من هذا الصباح، ولا يوجد قبر أقرب لهذا الصباح إلا ذلك الموجود في سكة القبر!

وعموما وبعد كل هذه القرون أصبحت تلك السكة من السكك المخيفة بالحارة لأي زائر حتى أتاها الفجر الجديد بحراك شبابنا من رمموا المنازل المقابلة للقبر وحولوها إلى نزل ومركز للتعريف عن الإسلام التابع لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ومقهى رائع جدا لتقديم الوجبات وحوله عدة مقاهٍ أخرى للقهوة، كما افتتحوا ممرا هناك يأخذك إلى سور حارة العقر البديع الذي رممه كذلك شبابنا ليصبح أجمل كما كان قبل ألف سنة، وقبلة للزائرين، ولم يكتفِ شباب نزوى بذلك بل وضعوا لوحة مقابل هذه السكة كتب عليها « سكة الحياة» بعدما كانت تعرف بسكة القبر!

إن النشاط الاستثماري الذي يقوم به شبابنا في حارة العقر تكامل بشكل بديع مع سوق نزوى التقليدي وقلعتها المهيبة التي بناها الإمام سلطان بن سيف اليعربي خلال 12 عاما لتصبح شاهدة اليوم على مجد العمانيين وانتصاراتهم على الاستعمار البرتغالي نهائيا في المعركة الأخيرة بمسقط عام 1650م، والمعارك التي استمرت فيما بعد في المحيط الهندي وبعض موانئ الهند، حيث دمّر الأسطول العماني كل ما تبقى للبرتغاليين في تلك الأنحاء وتم بناء القلعة من تلك الغنائم.

تجربة نزوى تجربة فريدة من نوعها وهي تُثبت من خلال أهلها بأن الشابّ العماني يستطيع بكل قوة أن يبدع ويطور وبالأخص أن نتخلص من بعض الإجراءات البيروقراطية المعقدة، هذه الإجراءات التي قابلها شبابنا بتحدٍ وإصرار حتى أثبتوا بأنهم المعادلة الأقوى في الولاية، وبصراحة لولاهم لكانت الحارة حطاما في حطام!

نصر البوسعيدي كاتب عماني