رحلة صادق جواد

31 يوليو 2021
31 يوليو 2021

قد لا أكون مبالغًا إن قلتُ: إن الوسط الثقافي العُماني لم يعرف مثقفًا اسمه صادق جواد سليمان إلا في مطلع الألفية الجديدة عندما كان الرجل يناهز السبعين من عمره، وإن كان الوسط الدبلوماسي يعرفه جيدًا خلال السنوات التي عمل فيها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي سفيرًا للسلطنة في الولايات المتحدة وإيران وتركيا ودول أخرى. بل إنني أجازف بالقول: إن الوسط الثقافي العربي في أمريكا عرفه قبل وسطنا الثقافي العُماني من خلال انخراطه في الفعاليات الثقافية هناك، ودراسته للماجستير في السياسة الدولية العامة في معهد الدراسات الدولية العليا بجامعة جونز هوبكنز، ومشاركته الفاعلة في تأسيس مركز الحوار العربي في واشنطن عام 1994والذي انقدحتْ شرارة فكرته الأولى في بيته في واشنطن.

كان حوار الكاتب ناصر صالح معه في مجلة نزوى عام 2006 هو بداية تعرفنا في السلطنة بهذا المثقف العُماني الأصيل. ومنذ ذلك التاريخ، وحتى وفاته يوم الثلاثاء الماضي، كان صادق جواد مثالًا للمثقف العضوي الذي تحدث عنه غرامشي، فلم يعتذر عن أي فعالية ثقافية دُعِي إليها، سواء في النادي الثقافي، أو الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء (التي ترأسها خلال الفترة من 2010 إلى 2012)، أو مبادرة «القراءة نور وبصيرة»، وغيرها من الجهات الثقافية، كما أنه وهو الذي تقدم به العمر لم يرفض الدعوات الإعلامية، وما زلت أستذكر كرمه معي في مارس من عام 2012 عندما دعوتُه لحلقة من برنامج «من مسافة قريبة» فإذا به يستفيض في الحديث إلى درجة أغرتني بتمديد الحوار إلى حلقتين.

كثيرون هم أصدقاء صادق جواد سليمان، ومن كل البلدان، وقد اتضح ذلك من الرثاءات الكثيرة التي أبَّنتْه، ومن وصول خبر وفاته إلى «ترند» في تويتر، وهذا ليس غريبًا على مثقف لم يكن يُشعِر المحيطين به بأي تعالٍ أو فوقية، بل كان متباسطًا مع الجميع، ومنخرطًا في العمل المدني، وناصحًا أمينًا للشباب، ومنحازًا لهم في مطالباتهم بالإصلاح والعدالة والحرية. لكنه، بالرغم من كثرة أصدقائه، كان الكتاب صديقَه الأول. يقول في كلمة له ألقاها في احتفالية جامعة السلطان قابوس بمناسبة اليوم العالمي للكتاب عام 2010: «منذ أن وعيت على نفسي أكاد لا أذكر يوما لم أجلس فيه إلى كتاب». ويسرد حكاية صديق قديم زاره ذات يوم في شقته في روي ورآه جالسًا لوحده بين كتبه، فأشفق عليه من العزلة، وقال: ماذا تصنع وحدك بين هذه الكتب؟ ألا تستوحش؟ ألا ينتابك سأم؟ فكانت إجابة جواد: «هي تبدو لك كتبا، وهي كذلك، ولكن بين دفتي كل كتاب شخص أدار نظره في شأن من شؤون الحياة، ثم أفرغ خلاصة نظره في الكتاب، وحظّي أنه بذلك مكنني من أن أتعرف على فكره ومعرفته، وإن لم أتعرف عليه شخصيا».

غير أن هذا العاشق للكتب غادرنا دون أن يترك كتابًا واحدًا، ربما لأنه لم يكن مشغولًا بجمع كتاباته من مقالات ومحاضرات وبحوث باللغتين العربية والإنجليزية، وإنما كان مشغولًا أكثر– كما قال الكاتب سعيد الهاشمي في حواره عنه في برنامج «المشهد الثقافي» منذ يومين- «بتثوير أسئلة المعرفة، وبالمنهج، حيث كان يردد دائما أن سلامة الفكر بسلامة منهج التفكير، وكان مشغولا بالنزاهة، وبأن تتوافق أفكاره مع مسلكه في الحياة، هذا ما كان يشغله فقط، أما التوثيق فهو دور الأجيال اللاحقة». وربما من هذا المنطلق انبرى الهاشمي نفسه لهذه المهمة منذ عدة سنوات، وقد شرع بعلم وموافقة الأستاذ صادق في جمع هذه المقالات والمحاضرات في كتاب واحد، وانتهى منه بالفعل. غير أن الموت عاجل الأستاذ قبل أن يرى كتابه النور، هذا عدا الكتاب الآخر الذي عكف الباحث بدر العبري فيه على جمع حواراته الطويلة والمعمقة مع الأستاذ حول مسائل فكرية شتى، والذي رحل صادق جواد أيضًا قبل أن يراه.

وإذا كانت الحياة محض رحلة قصيرة، مهما بلغ المرء فيها من عمر، فقد انتهت إذن رحلة هذا المثقف العُماني النبيل التي بلغت ثمانية وثمانين عامًا. هذه الرحلة يمكن أن أستعير في وصفها مقتطفًا من إيميل بعثه الأستاذ لي وللأخ جابر الرواحي بعد عدة أيام من عودتنا من مدينة سرت الليبية في أكتوبر من عام 2009، بعد أن شاركنا في المؤتمر العام الرابع والعشرين للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، حيث شارك صادق جواد في الندوة المصاحبة لذلك المؤتمر بورقة عنوانها «المثقف العربي وإشكالية الأنا والآخر». قال الأستاذ صادق من ضمن ما قاله في ذلك الإيميل: «..كانت رحلتنا شاقة، لكن مفيدة جدا وممتعة».