ذاكرة الأسئلة

25 سبتمبر 2021
25 سبتمبر 2021

"يا له من وضعٍ أحسد عليه، فلستُ فاقدًا للذاكرة، كما لستُ أملكها كاملة". يمكن اعتبار هذه العبارة في قصة "فجوة الذكريات" للقاص العُماني الشاب "محمد الحراصي" مفتاح القراءة لمجموعته القصصية الجميلة "ذاكرة الأسئلة" الصادرة حديثًا عن مؤسسة الانتشار العربي ببيروت. إن أبطال هذه المجموعة يعانون من مكر الذاكرة وبطشها وخياناتها، إذ تسرق أحيانًا سنين طويلة من حيواتهم وترمي بها في جبّ النسيان، وتجود عليهم أحيانا أخرى ببعض ذكريات غير مؤلمة، لكنها سرعان ما تسرقها وتتركهم في حال يرثى لها.

وعلى غير عادة المجموعات القصصية الأولى التي تخاطب القراء بنصوصها فقط، آثر الحراصي أن يكتب مقدمة مقتضبة من صفحتين يشرح فيها أنه كتب هذه المجموعة على مدار ثلاث سنوات، وأنه "لا يرمي من وراء هذه النصوص إلى تأسيس معرفة ولا يدعي أنها تنبع من وجهة نظر أو تأمل عقليين" وإنما إلى "نقل انفعالات وهواجس نفسية" مما يعتمل عادة في صدر الأديب.

في قصة "فجوة الذكريات" يتذكر البطل الذاهب إلى البعيد في "المركب المعدني العملاق" تفاصيل من حياته الماضية وتغيب عنه تفاصيل أخرى. إنها أقرب ما يكون إلى الذاكرة الانتقائية الخؤون التي تحدثت عنها إيزابيل الليندي، تلك التي تطبع بالأبيض والأسود، في حين تضيع الذكريات الرمادية في الطريق. غير أن الذاكرة المفقودة في قصة "الغريب والغروب" هي ذاكرة مختلفة تماما، إنها ذاكرة الحنين للأم والأرض والمرابع الأولى. إن الحنين هنا "هو ما يُنتقى من متحف الذاكرة. هو تكرار للذكرى وقد صفيت من الشوائب"، كما يخبرنا محمود درويش، إذ يعكف الفنان الغريب على تأمل الغروب يوميًّا في قريته التي عاد إليها بعد غياب خمسين سنة، مجترًّا ذكرياته القديمة في قرية باتت تنظر إليه كشخص غريب الأطوار. إن هذه العودة المتأخرة، بعد أن ماتت أمه كمدًا وهي تنتظره، حدثتْ لأن "هنالك ذكريات لا يمكن العيش دونها، فهي جزء مهم من هويتنا ومن ذواتنا" كما يقول الحراصي في قصة أخرى هي "ذاكرة الأسئلة".

في هذه القصة الأخيرة التي تحمل اسم الكتاب، والتي هي أيضًا أطول قصص المجموعة، تُعرَض على بطلة القصة هذه الصفقة: أن تمحى "ذكرياتها وكامل تفاصيل حياتها، في مقابل سعادة عائلتها"، ويخبرنا السارد العليم في القصة أن هذا "العرض مغرٍ حقا، لطالما رفعت [البطلة] يديها في كل صلاة بأن تتاح لها فرصة التضحية بكل ما يمكنها في سبيل أمها المريضة وإخوانها الصغار"، ورغم أن القصة لم تؤكد في النهاية أو حتى تنفي موافقة البطلة على هذا العرض إلا أننا نعلم جيدًا أن "أيّ شيء تصادفه على هذه الأرض القذرة، معرّضُ للفناء، بدءًا من الجمال وانتهاءً بالذاكرة"، كما يقول كارلوس زافون في روايته "لعبة الملاك".

أما قصة "مفتاح الخلاص" فتذكّر المرء بعبارة عبدالرحمن منيف في "الآن هنا" عن أن "الإنسان دون خيال ودون ذاكرة لا يقوى على مقاومة الزنزانة"، إن بطل القصة يجد نفسه فجأة محبوسًا في غرفة ضيقة سنعرف لاحقًا من سارد القصة (دون أن يشاركنا البطل هذه المعرفة) أنها زنزانة لحبس المساجين في قلعة قديمة، ولا يتذكّر البطل ما حصل له قبلها، لكن خياله يُسعفه بتجريب مفاتيح الخلاص للباب الوحيد للغرفة: مفتاح سيارة الأجرة (الذي يرمز إلى الرزق) والذي يفشل في فتح الباب، ثم مفتاح البيت (الاستقرار)، يليه مفتاح صندوق البريد (الحب)، ويفشلان أيضا في فتحه، ولم يتبق له إلا المفتاح الرابع والأخير وهو مفتاح المكتبة (المعرفة). وحين ينجح البطل في فتح باب الغرفة/ الزنزانة بهذا المفتاح، ونتنفس نحن القراء الصعداء بأن المعرفة هي مفتاح النجاة للإنسان، إذا بنا نفاجأ بأن الزنزانة ترتفع عن الأرض عشرة أمتار، وأن مجرد فتح الباب يودي بنزيلها للسقوط إلى الهاوية!.

وإذا كان بطل قصة "وراء الشاشة المغلقة" يحبس ذكرياته العزيزة على قلبه في حاسوبه القديم، وهي الذكريات التي "تشهد على فترة قضاها يتمتع فيها بفكر حر"، فإن بطل قصة "استيقاظ" فَقَد ربع قرن من ذكرياته (بل دعونا نقل من حياته ككل) بعد أن دخل لإجراء عملية جراحية ونسي قبل تخديره –وربما تناسى- إخبار أطبائه انه مصابٌ بالسكري.

ورغم أن "ذاكرة الأسئلة" لم تنجُ تمامًا من بعض عثرات البدايات، وهذا أمرٌ طبيعي، إلا أننا نقرأ فيها قصصا واعدة تنبئ بموهبة كبيرة لكاتبها، وبقدرته على نسج حيوات مختلفة بلغة جميلة وخيال خصب. وهذا هو أهم ما في الأمر.