جرة قلم : كتاب الخضراء لمحمد الصالحي

21 يونيو 2022
21 يونيو 2022

1- الإنسان

« الخضراء » لؤلؤة النهار وتغريبة المساء لمحمد بن صالح الصالحي، إصدار 2022 من الكتب التي تدعو قارئها للسباحة السهلة بين حروفها. كتاب ينتمي إلى سلاسل الكتب المتعلقة بتوثيق الوجوه والأمكنة. ولأنه كتاب متعدد في عدد صفحاته ( 256 صفحة) احتل الفصل الذي يحمل عنوان «إنسان» نصف عدد صفحات الكتاب، لذلك استحق مقالا مستقلا. ولأهميته حظي الكتاب بمقدمتين الأولى قام بها الشاعر والصحفي فيصل بن سعيد الفارسي، الذي عدّ الكتاب ميدانا» لحكي المعايشة وتفاصيل الإنسان والمكان» والمقدمة الثانية بقلم الباحثة والأكاديمية د. عائشة الدرمكي، التي رأت أن «الكتاب منح التراث الثقافي المروي قدرة سردية جديدة محورها الذات في علاقتها بالذاكرة أولا، وفي علاقتها بالآخر( المكان والإنسان والأسطورة ثانيا).»

وجوه وصور:

يسلسل الراوي عبر 124 صفحة مجموعة من الوجوه التي عاشت في قرية « الخضراء» بولاية السويق. وهي وجوه ينتمي جلها لما يمكن تسميته بعصر الكفاح من أجل العيش. حيث إن البحر في هذه الولاية البحرية العريقة، يكون هو ميدان هذا الصراع من أجل الوصول إلى ضفاف حلمية بعيدة لا تخلو من رياح عاتية ومقالب بحرية ثقيلة، تكون عادة الشمال الإفريقي أو السواحل الإيرانية، وذلك بغرض البيع والشراء عبر وسائل النقل المختلفة، أو تكون هذه الضفاف دول الخليج من أجل الاستقرار والبحث عن عمل، بل هناك من يبقى عقودا كاملة يعمل قبل أن يعود إلى وطنه الأم «أحد وجوه هذا الفصل مثلا طلقت زوجته منه بسبب الغياب الطويل». إلى جانب هذه الوجوه الراحلة بين الأمواج، هناك من عاشرهم الكاتب في أواخر سنين حياتهم، ولكن دون أن يغمطهم حقهم بما علق في ذاكرته من تفاصيل، سواء كانت سماعية أو مرئية.

كانت البداية مع شخصية الغول والترنشيب، والترنشيب هو اسم مركب « السمبوق» الذي يملكه أحمد الأنصاري الذي انتهت رحلته بين البحار إماما لمسجد الجامع، وكان «عندما ينهي الصلاة بالتسليم، يتفقد المصلين، فهو يعرف من غاب، فينتظر صلاة أخرى، فإذا لم يجده سأل عنه، فإن قيل له في البحر حمد الله، وإن قيل له مريض دعا الله أن يشفيه، حتى إذا جاء الليل دخل دكانه وجمع للمريض ما يحتاج له بيته.. وما يلبث أن يضع ما يحمله ومعه المال». نتعرف في هذا الفصل -إلى جانب روح التكافل الاجتماعي التي كان عليها المجتمع يومئذ- إلى أن كلمة « السنبوق» مشتقة من الإنجليزية، وتعني نقل بضائع أو أشخاص من سفينة إلى أخرى، يقابلها الترانزيت بالنسبة للجو.

بعد ذلك سيكون للقارئ موعد مع صاحب مركب « الشوعي» الذي تم شراؤه من الكويت، ولكن الأمواج أغرقته ورمت به محطما إلى شاطئ البحر، ولكن صاحبه ظل ينام تحت ظله «من شدة حب الشيخ له كان ينام تحته، يشم فيه رائحة الموانئ وعرق العمال المسافرين».

من الشخصيات الملفتة في هذا القسم، شخصية راعي الحفري، النواخذا المرحوم ناصر بن سالم العويسي، الذي جاب موانئ الهند وإفريقيا» فمن ميناء مطرح، إلى ميناء المكلا، إلى ممباسا، إلى مايلندي في البر الإفريقي، إلى موانئ الهند وباكستان وإيران إلى البصرة ثم الخليج العربي) وقد عرف عنه – إلى جانب امتهانه ركوب البحار- تعدد وظائفه وعلو أخلاقه « ومما يروى عنه أنه كان موطن الأمانات لأهل المنطقة» و«كان رمانة الميزان في حل الخلاف».

هذه الشخصيات التي «من جلودهم تنبت أشجار الغاف والسمر، ومن أحلامهم أزهرت حبات الرمل كيذا وياسمين» تتميز بالثراء على المستوى الشخصي، كما أنها تتعدد مشاغلها من شخص إلى آخر، كما أنها كذلك عاشت أعمارا متفاوتة، بين من رحل باكرا كما هو الحال مع مع مبارك الصيد «الطير المسافر» الذي عمل في أكثر من مجال، ضمنها فني ديكور لبعض المسلسلات العمانية من أشهرها مسلسل الشايب خلف، إلا أنه مات شابا بطريقة عبثية» في الطريق طلب من نسيبه أن يأكل تفاحة.. وإذا بجمل يركض نحو السيارة بكل سرعته». هناك كذلك وجوه من عمرت طويلا ووصل بعضها إلى 120 عاما. من العناوين الطريفة « البحار الذي رفض أن يكون أميرا على الكويت «وهي عن قصة البحار سعيد بن علي الحمادي الذي عاش في الكويت في أوج الأحداث المؤسفة بين الدولتين الشقيقتين العراق والكويت في التسعينات. وقصة ( أبوجمال) الذي سمى أكبر أبنائه على اسم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وكان يحمل جواز أكثر من دولة شقيقة، وذلك حسب الظروف والرياح التي كانت يومئذ تعصف بالناس من شاطئ إلى آخر ومن بر إلى بر. دون أن ننسى ذلك الرجل الذي حل بساحل إيران وأقام وتزوج هناك، ولكنه استطاع في آخر أيامه أن يعود إلى موطن طفولته الخضراء ويموت فيها. هناك كذلك مختصر لحياة النوخذا الذي سمي بالعفريت نتيجة لإقدامه ومغامراته السندبادية في البحار، وانتهي به الأمر مستريحا كبواب لعدد من المدارس التعليمية. ومن طرائف هذا القسم ما يتعلق بـ( لاتو) وهو أحمد بن إبراهيم العلوي الذي لقب بذلك تيمنا باللاعب البولندي الأسطورة لاتو.

أفسح الكاتب في نهاية هذا القسم مسافة طويلة للحديث عن جدته المعمرة الحاجة شيخة القاسمية، التي لم يفارقها حس الفكاهة حتى آخر يوم من عمرها.