جرة قلم.. سيرة بحار تكتبها ابنته "الأرض خزنة ذهب" لجواهر الزعابية
لم تذكر مؤلفة كتاب "الأرض خزنة ذهب" على غلاف كتابها (السيري الغيري) تلك العبارة التجنيسيَة الحذرة "رواية" التي يلجأ إليها بعض الكتاب وهم يسردون سيرا توثيقية محددة بالزمان والمكان والتواريخ. فرغم أن الكتاب صدر بدون ناشر - من منشورات عام 2012 - إلا أنه مثبت برقم إيداع، ورغم ذلك - ومن أجل العبور السهل للأحداث فوق جسر التشويق- استعانت الكاتبة بأداة من أدوات السرد، وهو الحكي الخطي، ما ساعدها على نثر أحداث كتابها بحرية، وأعفاها بالتالي من ذكر سلسلة التواريخ إثر كل نقلة زمنية وانعطافة في حياة شخصية الكتاب، الأمر الذي من شأنه أن يثقل مادة الكتاب بالتواريخ، ويعرقل بالتالي الاستقبال السهل والسلس من لدن القارئ. فرغم أن الكتاب منزوع إلى توثيق نمو حياة شخصية حقيقية – وليست شخصية من ورق حسب رونالد بارت في معرض حديثه عن شخصيات الروايات الأدبية – إلا أن أسلوبا كهذا – رغم أنه يعبر على سطح الأحداث ولا يتعمق – يضمن على الأقل قارئا فضوليا – وأعني هنا الفضول المعرفي - مسايرا لصفحات الكتاب من بدايته حتى نهايته.
أبي الصغير أو محمد وأمه:
السارد في هذا الكتاب السيري امرأة راشدة تسرد منذ البداية حياة والدها الطفل ذي السابعة، فهي أثناء هذا السرد تعرج أحيانا على الحديث عن نفسها لتورد بعض المواقف الآنية التي حدثت لها لاحقا في بلدان غربية زارتها ، ثم تعود بعد ذلك إلى سرد حياة والدها وهو طفل يتيم فقد والده في البحر، وكان وحيد أمه، تلك الأم التي ثكلت في مقتبل عمرها، ولكنها أصرت على الاعتناء بصغيرها عناية قد تبدو غريبة، وهي أن تحوله إلى رجل وهو في مقتبل العمر، حين قذفت به إلى البحر ليتعلم مهنة أبيه وهو ما زال في سن السابعة وقد أوصت عليه العم "جمعة" رفيق العائلة الوفي الذي تكفل برعايته وتوجيهه ومرافقته في رحلات البحر حتى وفاته ليشق الشاب بعد ذلك طريقه بنفسه. ولكن الأمر لم يكن يخلو من صراع في تلك البداية الصعبة، حتى أن النوخذة كان يضايقه وجود طفل في سفينته. الأمر الذي كان يولد ردود فعل عنيفة ضد الطفل الصغير الذي ظن طوال رحلته الأولى إلى البصرة أن الربان سوف يقتله، حتى أنه كان يتعذب في النوم ويقفز صارخا وهو يظن بأن النوخذة جاء ليخنقه. لقد وضعت الأم الحريصة على أن يتعلم ابنها مهنة والده الذي فقد في البحر ولم تعثر على جثته، وضعت مهمة صعبة على عاتق صغيرها، مصرة بذلك على أن يكمل طريقا قطعه الموت: " تسترجع لحظة تسليم ابنها للعم جمعة، حيث كان مقصدهم البصرة بعد مرورهم بالكويت" ص 34. لقد عاد الطفل من رحلته الأولى مشتاقا إلى حضن أمه وهو يشتكي لها من قسوة النوخذة، ولكن الأم طمأنت صغيرها بأن النواخذة يتغيرون، فأصر عليها بأنه لا يرغب بعد أن يكمل هذه المهمة ولن يعود ثانية إلى البحر" كان عليها البدء من اللحظة بتهيئته كي يصبح رجلا عظيما كوالده، وبينما هي كذلك إذا بها تسمع نحيبا خفيفا يصدر من إحدى زوايا البيت، اتجهت إليه، كان ابنها يبكي لوحده، يداري أساه وحزنه، انتشلته من زاويته وضمته إلى صدرها وهي تقول:" يا بني ليس على الفتى كي يصبح رجلا ألا يشارك أحدا حزنه، خفف عن نفسك يا بني وابك ما استطعت في صدري" ص 21
وهكذا دفعت به ثانية إلى البحر وهي تحبس دموعا حرى. كان هذا الصراع بين الشوق والاحتفاظ بابنها وبين دفعه إلى المجهول لكي يتعلم مهنة والده، هذا الصراع كان أهم ما يميز هذا الكتاب ذا النزعة التوثيقية السردية الواضحة، حيث الأحداث تجري جريانا خطيا متتابعا. فالطفل محمد يكبر في كل رحلة إلى البصرة والهند وزنجبار، ويتدرج في وظائف البحر، ويجابه الأخطار ففي إحدى الرحلات إلى زنجبار هاجمتهم عاصفة وقضت على عدد من ركاب سفينتهم، ولكن كتب لمحمد النجاة، بل كان سببا في إنقاذ حياة بعض كبار السن، الأمر الذي ولد قناعة لدى من بقي حيا من البحارة في ترشيحه ربانا للسفينة أثناء رجوعها إلى عمان، ليكون هو نوخذة السفينة، حينها شعر بأنه قد بلغ مرام أمه وأنه الآن تحول إلى وارث حقيقي لمهنة أبيه، وهو ما أفرح الأم وجعلها تشعر بأن الطريق الصعب الذي دفعت فيه ابنها لمعانقة المجهول، انتهى بالنصر أخيرا" أخذت والدته تتفرس ذلك الوجه الجميل بالأنف الحاد الذي يشي بمجد قادم ومستقبل جميل" ص 51.
تتدرج حياة محمد الزعابي من نوخذة يمخر عباب البحار إلى صنايعي يمتهن صناعة الخناجر العمانية في سوق صحم، إلى قائد فرقة بحرية تنشط أكثر أيام الأعياد الشعبية والوطنية، وقد ضمت هذه الفرقة - في أوج نشاطها - قرابة الخمسين مؤديا للفنون البحرية.
مرآة وسجل للذاكرة:
الكتاب لا يطمح لأكثر من أن يوثق تفاصيل حياة نموذج من نماذج الكفاح من أجل العيش ويعكس بالتالي صورة من صور الحياة الصعبة التي عاشها جيل سابق لفترة اكتشاف النفط. وإن كانت الكاتبة تركز في كتباها على حياة أبيها النوخذة والبحار محمد الزعابي إلا أنها – خلف عباءة هذا الوصف المتدفق - تعرفنا على تفاصيل حياة سابقة لزمننا وظروفها المتغيرة، وتعرفنا بالتالي على طبيعة تلك الحياة بتقاليدها المعيشية وتفاصيلها اليومية، سواء في البر أو البحر، حيث يتناوب في السرد فضاءان أحدهما ولاية صحم البحرية وسوقها وتكاتف مجتمعها وقت الملمات إلى جانب الدور القوي للمرأة في تسيير الحياة خاصة وقت غياب الرجال في عرض البحر، الذين كانوا يهاجرون أياما بلياليها من أجل توفير شروط حياة كريمة لعائلاتهم، والفضاء الثاني هو البحر الذي تمخره السفن قاصدة موانئ المحيط الهندي في سواحل الهند وإيران وشرق إفريقيا وما يواجه تلك الرحلات من توجس وأخطار إلى جانب ما يتخللها من أدعية وغناء، إلى جانب تفاصيل عن طبيعة الطعام وأنواع التجارة التي كان العمانيون يتبادلونها في الموانئ البحرية. فقد كانت رحلة محمد الزعابي في الحياة ومن خلال الخلفية الوصفية لها، لا تجعل القارئ يقف فقط أمام حياة شخص واحد مليئة بالكدح والكد والصراع من أجل البقاء والعيش فحسب، إنما حياة جيل كامل شكلت حياة محمد الزعابي صورة ضمن صور كثيرة لو قدر لكل شخص منها أن يسرد حياته لكانت ربما – كحياة محمد الزعابي- مليئة بالمشاهد المثيرة والمواقف الطريفة. وخيرا فعلت الابنة الوفية جواهر بنت محمد الزعابية في تعريفنا بحياة شخصية ستكون عابرة، ولو لم تكشفها لنا.
