جرة قلم : رواية «سر الموريسكي» والمتخيل التاريخي

12 أبريل 2022
12 أبريل 2022

أقيم يوم الأحد 10 من أبريل الجاري بصالة مقهى «هوم لاند» بالمعبيلة الجنوبية لقاء ثقافيا احتفاء برواية «سر الموريسكي» وهي الرواية الأولى للكاتب الشاب محمد العجمي بعد كتابين.

تتفرد هذه الرواية التي حصلت على مرتبة متقدمة في جائزة الشيخ زايد للآداب - كانت ضمن قائمة الأوائل لهذه الجائزة- بكونها تحاول أن تملأ فراغات تاريخية وتجيب عن أسئلة لم يقلها التاريخ صراحة إنما لمح إليها، وهذه التلميحات والحقائق كانت الوقود والحطب لكي يؤلف الكاتب روايته التي لاقت استحسانا من القراء. وعادة مثل هذه الروايات التي تستثمر المتخيل التاريخي إذا أتقن صنعها، فإنها تنال سلسلة لانهائية من القراءات. ونحن نعرف الآن ما تشهده روايات كثيرة من تصاعد القراءات لها، ليس على سبيل الحصر رواية «ثلاثية غرناطة» للمصرية رضوى عاشور، التي تدور في الفترة نفسها تقريبا التي تدور فينا أحداث رواية سر الموريسكيس ( بدايات القرن السابع عشر) في أوروبا، وبالتسليط على فئة الموريسكيين العرب والمسلمين الذين عاشوا قرونا في الأندلس، ورغم إنجازاته العلمية والعمرانية الناطقة، إلا أنهم ظلموا وشتتوا وقبح بهم، حين حكمت عليهم الحروب بالتشتت. يمكن أن نرى عددا منهم في مدينة فاس المغربية والقيروان بتونس. منهم من يمتلك مفاتيح حتى الآن، تمتاز بحجم كبير. وقد رأيت أحدها عند رب عائلة أعرفه في مدينة فاس. وهو مفتاح حمام شعبي، وقد أغلق الأوروبيون الحمامات - كما يقال- لأنهم لا يستحمون، بخلاف العرب والمسلمين الذين أشاعوا هذه العادة انطلاقا من ثقافتهم التي تحتفي بالنظافة والاغتسال الدائم، ويمكن الرجوع إلى رواية ثلاثية غرناطة لنتعرف على جانب من هذا الأمر المتعلق بالحمامات التي أغلقها القشتاليون ما إن تمكنوا من المناطق العربية بإسبانيا.

وبالعودة إلى هذا النوع من الروايات التي تدخل في إطار المتخيل التاريخي، نجد قائمة كبيرة منها، وثمة كتاب متخصصون في هذا النوع من الروايات أشهرهم عالميا اللبناني أمين معلوف والفرنسي جيلبرت سينويه. وعربيا فإن العدد من الصعب أن يقف عند حد، فنادرا ما تجد روائيا معروفا إلا وحاول أن يستل من التاريخ رواية، كما يفعل مثلا المصري صاحب رواية عزازيل يوسف زيدان في جميع رواياته، وكما فعل قبله جمال الغيطاني في روايته الشهيرة التي حولت إلى مسلسل « الزيني بركات»، وكما نجد في بعض روايات الكاتب الجزائري واسيني الأعرج، ودون أن ننسى المغربي حسن أوريد الذي ذهب بعيدا في هذا الاشتغال، وكانت البداية الفعلية مع روايته «الموريسكي» الذي نالت تداولا واسعا. والقائمة طويلة ويصعب حصرها، كما أن هذا النوع من الروايات يحظى عادة بالحصول على الجوائز والاحتفاء به، وذلك لكونها تعتمد على مجهود كبير في البحث والتقصي، ولكونها كذلك تملأ فجوات مجهولة في التاريخ، - ونحن نعلم إن الإنسان عدو لما يجهل - فمثلا بسبب رواية «موت صغير» للسعودي محمد حسن علوان عرفنا جانبا من تفاصيل رحلات وحياة شيخ المتصوفة محي الدين بن عربي، ومثل هذه الروايات تكمن جاذبيتها كذلك في كونها تنفتح على علم التاريخ بأسراره ودهاليزه وطرائفه. وبالرجوع مثلا إلى جائزة البوكر، نجد الكثير من الروايات الفائزة تمتح مادتها من شخوص وأحداث تاريخية، واستجابة لهذا النوع من الروايات ظهر مساق نقدي تحت مسمى المتخيل التاريخي أو التخييل التاريخي، أصبح له رموزه ومنظروه عالميا وعربيا. على سبيل المثال الباحث العراقي عبدالله إبراهيم الذي فاز كتابه في هذا المجال بجائزة الشيخ زايد، إلى جانب الناقد المغربي سعيد يقطين الذي كان سباقا إلى توطين المتخيل التاريخي في سياق قراءته للرواية العربية، حين نتذكر أن من أوائل كتبه كانت تناقش رواية الزيني بركات لجمال الغيطاني. حتى إن بعض الشباب من الباحثين العرب تبحروا في هذا السياق، يمكن أن نذكر على سبيل المثال الباحث الشاب سعيد الفلاق وهو طالب بجامعة الملك محمد الخامس بالرباط، الذي فاز أول كتاب له بعنوان «التخييل التاريخي في الرواية العربية المعاصرة» بالمركز الأول لجائزة راشد بن حميد في مجال النقد.

هل يمكن اعتماد

الرواية التاريخية كمرجع؟

طرح في نهاية الأوراق النقدية لأمسية سر المورسيكي بمقهى هوم لاند سؤال (هل) يمكن اعتماد الرواية التاريخية مرجعا تاريخيا؟ وبعض الحضور أدلى بدلوه في هذا السياق، وفي سبيل المشاركة أرى بأن هذا النوع من الروايات هو بالأساس يعتمد على حقائق ووقائع حصلت في الماضي؛ أي أنه يتزود بهذه الحقائق والوقائع التي ذكرت في كتب التاريخ، ولكن كاتب الرواية قام بجمعها والتأليف في ما بينها، وذلك لأنها تأتي منجمة وعلى هيئة إشارات متفرقة هنا وهناك في متون الكتب، حيث إن الروائي في سياق (المتخيل التاريخي) قبل أن يكتب روايته سيقوم بعمل بحث موسع يستمر لأشهر في المادة المراد تحويلها إلى رواية، ولكنه بعد أن يجمع تلك المواد والحطب يقوم بعد ذلك بإشعال ناره الخاصة. وهو في كل ذلك يحاول ملء الفراغات التي لم يذكرها التاريخ ولكن لديها احتمالية الحدوث، وهذه الاحتمالية يستقيها الكاتب من معطيات سابقة ومؤشرات متفرقة هنا وهناك في متون الكتب، دون أن يعني ذلك أنه يكتب الحقيقة التاريخية كما حدثت بالتفصيل، وأنى له ذلك، إنما يذهب إلى احتمالية حدوثها بناء على معطيات تاريخية وإشارات بعيدة، لذلك فإنه يجتهد كثيرا في البحث عن حطب كثير ومتنوع لوجبته الروائية لكي تكون لذيذة ومستساغة، ونحن نعرف أن قراءة التاريخ بطبيعتها رتيبة ومتحاقبة ومليئة بالتواريخ والثبوتات، والسارد عن طريق ما يوفره القالب الروائي من (متعة حكي)، يحاول أن يلعب على الزمن بأنواعه وأشكاله كما فصله الباحث الفرنسي الفذ بول ريكور.

عودة إلى هوم لاند ولقاء الأخوة:

نجد في قراءات مقهى هوم لاند لرواية سر الموريسكي ثراء في الأوراق المقدمة وتنوعها، حيث إن كل ورقة غطت جانبا من الجوانب المهمة لقراءة هذه الرواية التي ما زالت تقرأ. فقد تحدثت غنية الشبيبية عن عتبات الرواية باحثة عن دلالة العنوان واللوحة وغيرها، وكان وقوفها أمام لوحة الغلاف طريفا، حيث رأت الكاتبة أنها توحي إلى يوسف المورسيكي أحد أبطال الرواية لأنه يريد أن يخفي السر لذلك ظهرت اللوحة بهذا الغموض ما ينسجم مع السر الذي يخفيه والذي حاول البطل الرئيس للرواية «روبرت فيبن» أن يستجليه ويستوضحه، كما تحدث الباحث سعود الزدجالي عن مواضيع مركبة تتعلق بالبحث عن بعض الدلالات التي تتوفر عليها الرواية حيث يرى أن الرواية استطاعت أن تقدم لنا أحداثا دارت في أربعة عقود بطريقة يمكن أن نقرأها في ليلة واحدة. مستطردا الحديث عن زمن القصة وزمن الخطاب. الشاعر إبراهيم الحجري كعادة أوراقه المسبورة قدم لنا ورقة تمتاز بالشاعرية حين استطاع أن يستل من الرواية عبارات وجمل موحية وبليغة. لا يجب كذلك نسيان القاص يحيى بن سلام المنذري الذي أدار الأمسية بعذوبة، ما ساهم في وفرة المدخلات، حيث إنه طلب في نهاية الأوراق من الكاتب محمد العجمي أن يحضر كرسيا ويجلس بجانب المتداخلين وذلك لكي يفتح المجال للأسئلة، وكان السؤال الأول من رئيس الجلسة نفسه حول كيفية كتابة الرواية ليستطرد بعد ذلك كاتب الرواية في الحديث عن تفاصيل مهمة رافقت قراءته لمخطوطات عربية كثيرة وجدها في الجامعات الهولندية وخاصة جامعة بايدن التي يقال إنها تشتمل على آلاف من المخطوطات العربية التي لم تطبع بعد، الأمر الذي وفر استفادة كبيرة من الكاتب الذي ذهب إلى هناك لكي يعتكف على قراءة المخطوطات - وهي صلب رواية سر الموريسكي التي تدور حول المخطوطات والمطابع العربية في أوروبا- وبعد ذلك قام بكتابة أولية ولكنه ما لبث وأن تخلص منها، لتأخذ منه كتابة هذه الرواية عدة مراحل وبمساعدة واستشارة أصدقاء، ما يدلل على المحاذير الكثيرة التي سلكها الكاتب في تعامله مع التاريخ، بيد أنه يتخيل هذا التاريخ ولا يقدمه كحقيقة تاريخية إنما كمادة أدبية، ولكن الحذر المعرفي كفيل بأن يحميه من الوقوع في مزالق ومفارقات لا يقبلها العقل أحيانا، كما حدث مع روايات ذات طبيعة تغريضية تحتمي بالتاريخ بقصد توجيه الرواية - وربما التاريخ المروي - وجهة خاصة.