جرة قلم :القهوة رئة الحياة عن كتاب «قهوة في كل مكان»

28 يونيو 2022
28 يونيو 2022

يقول حمد الصبحي في نص يشتبك مع الشعر، مستحضرا فيه «مقهى الفارسي» بقرية طفولته في ولاية بركاء: «أتذكر الآن أيضا قهوة أمي وهي تفرش الأرض، أمام موقدها الفجري. تحضرها على مهل، كأنها أمام صلاة زرادشتية، تحضرها بدءًا من انتقاء المحل الذي تشتري منه القهوة «السيلانية» ثم تذهب بها إلى المطحنة؛ مع التأكيد على طحن حبات من الهيل مع القهوة؛ ليكون طعمها معتقا، لكأنها تريد أن تقول لكل من يشربها بأن قهوتها ألذ، وهي كذلك دون غيرها.. قهوة أمي تفوح الآن من الذاكرة».

كتاب «قهوة في كل مكان» فكرة ابتكرها الكاتب حمود بن حمد الشكيلي وهو يدشن إصدارات دار «نثر العمانية» التي يشترك معه في إدارتها القاص مازن حبيب.

يشتمل الكتاب على نصوص عابرة للفضاء العماني، حتى بالنسبة للكتاب العمانيين الذين يستحضرون علاقتهم مع مقاهي العالم. فلا يمكن أن تكتب عن المقاهي دون أن تفتح صفحات الذاكرة، لذلك كان الكتاب زاخرًا بعشرات من الأحاسيس وأسماء المقاهي، كما كان زاخرًا بمشاركات متعددة عمانية وعربية: إبراهيم سعيد الذي يشتاق يشرب القهوة ليتذكر، وقد صادف شيخًا ينفخ في فنجان قهوة ليسقيه طفلا «لأن القهوة تزيد الفهامة» وحمد الصحبي الذي استحضر مقهى الفارسي في بركاء «وبغداد ومقهى الحافة في طنجة. وحمود بن حمد الشكيلي الذي بدأ في أواخر العقد الثاني يعد القهوة العمانية بنفسه، ولم يتخلَّ عن الدلة السوداء ذات علامة الفيل القديمة، التي صارت رفيقة جلسات المساء في بلاد صور، حيث كان يقضي أعوام دراسته الجامعية.

الكاتب والمترجم المغربي سعيد بوكرامي، تحت عنوان «هيا لنشرب القهوة» الذي لا يسافر إلا قليلًا» لم أغادر الدار البيضاء إلا في مناسبات قليلة جدًا فرضتها علي ظروف عائلية أو ثقافية» وذلك لأن «المقهى سفري، والقهوة متعتي الوحيدة خارج البيت» تحرره كما يقول من «ضغينة العالم ومن ضجري في مدينة تقهقر جمالها واندحرت قيمها» وفي هذا المقال الأشبه بدراسة مختصرة، يستعرض بوكرامي علاقة بعض كتاب العالم بالقهوة، من بلزاك إلى فولتير، وآرثر رامبو، وجان بول سارتر ومحمود درويش الذي يعتبر القهوة «شقيقة الوقت».

وسعيد سلطان الهاشمي الذي يختصر العالم في هذه الفقرة «القمر في السماء والقهوة في الأرض» في نص ثري مكثف يجول فيه من خلاله في دهاليز الذاكرة مستعرضا علاقته الزمنية بالقهوة بين «طفل البارحة وكهل اليوم» حين كانت يشتريها من دكان البانياني وهو طفل، ثم «الشاب الذي صار كهلًا، ارتحل كثيرًا في المسافة والمجاز، وبقيت القهوة السحر والسر المرتبطين بكل مدينة وقرية، ناصية وشارع، محطة وميناء، مطار ومرسى، حديقة وحقيبة».

القاص والروائي التونسي سفيان يوصينا بألا نتحدث قبل أن نشرب قهوتنا، وهو يحب احتساء القهوة في المقاهي المكتظة بالضجيج ودخان السجائر وصوت ضرب الكفوف على الطاولات لأنها: «تعيدني إلى الجو الشعبي الذي تبدأ منه القهوة دورتها في حقول القهوة في البرازيل وفي الهند، وفي الأكواخ الأثيوبية التي تطحن فيها حبات القهوة السوداء».

وصالح العامري ينثر لب آصرته مع «شجرة البن الهفهافة» حيث تكون كل رشفة «طلوعًا على فلقة قمر أو لألأة نجمة».

يسرد بعد ذلك الشاعر العماني عبد يغوث علاقته بالقهوة العتيقة التي تعود به إلى طفولته في السبعينيات. حينما كان يقضي الصيف بين النخيل، وتلك النخلة التي كان والده يعلق عليها ماكينة طحن القهوة. يروي لنا في نصه المكثف التقاطاته للخطوات البطيئة لتحضير القهوة التي تحتاج إلى صاحب (نفس ومزاج) والتي لا يعرف سرها إلا (الذويقة) التي كأنها ثغر حبيبة حين شربها والده آخر مرة. في ما يلي يسرد لنا آخر فنجان شربه أبوه في سرير المستشفى «أتأمله الآن على سرير المشفى وهو يتذوق بمهجة وداعية آخر فنجان قهوة له في حياته، أخذ يرتشف الفنجان وكأنه يرتشف ثغر الحبيبة، يتأملنا ويتأمل الفنجان، يدوره بين الرشفة والأخرى كأنها الأبدية، وحين انتهى هز الفنجان، تلك الهزة الخفيفة علامة الاكتفاء مع كلمته المعتادة «أحسنت» دخل بعدها في غيبوبة».

فاطمة الشيدي تشدو بنشيد في مديح القهوة، بعد أن تنثر أسئلة الذات /الأنثى: هل تشربين القهوة في كل وقت؟ هل تشربين القهوة «بالملج»؟ هل تحبين جميع أنواع القهوة؟ لتجيب: «إنها خمرتي وشجني وسجني، إنها روح الوقت الذي تهبه اللذة والعمق والجمال». لتصل في نهاية نصها المونولوجي إلى خلاصة، أو وقفة مفاجئة تشبه اللهاث بعد قطع طريق طويل: «لا مجال للكتابة عن القهوة كثيرا لأنها الحياة».

مازن حبيب يشارك بشذرات أو 18 مقطعا قصيرا «أشرب قهوة تركية سادة، قهوة تركية مضبوطة، دون أن يكون الذي «يضبطها» من تركيا، أو زارها، أو تعلم منها صنع القهوة». وفي شذراته يعدد لنا مازن أنواع القهوة التي شربها في أكثر من مكان، من مسقط وحتى أريزونا في الولايات المتحدة الأمريكية.

وكان من أطرف المشاركات في هذا الكتاب الذي يحفل بنكهة القهوة، تلك المشاركة التي أسهم بها نادل مقهى هوم لاند، الشاب المغربي محمد بوطعيمو. متحدثا في نصه عن كدحه في الحياة ورحلاته من أجل طلب الرزق» وكان في كل مرة يستبدل مرارة الماضي بحلاوة اللحظة الراهنة كل صباح» وفي إحدى فقرات المقال الفيضي يتوقف متحدثا عن مقهى هوم لاند: «في كل يوم يلقمني هوم لاند دروسا في الصبر والمسؤولية وحب العمل، أيقظت قهوة هوم لاند حب العمل والصنعة، وعلمني هذا والوطن خلط البن بكثير من النكهات».

الروائي اليمني وجدي الأهدل يشارك في الكتاب بمادة «شارع المطاعم/ الحديقة الخلفية للوطن» متحدثا عن هذا الشارع الذي اعتبره «أحد الملاذات النادرة في صنعاء الذي ألتقي فيه بأصدقائي» وهو المكان الذي أوحى له بأفكار «كثيرة جدا». وهو شارع صنعاني نشأ في بداية السبعينيات، وكان كمرآة تنعكس منها أحوال اليمن والتغيرات الاجتماعية والسياسية اللاحقة. إلى جانب الفعاليات الأدبية: «في عام 2013 قام عدد من الأدباء بتنظيم فعاليات أدبية في شارع المطاعم، وصار مقهى «مدهش» الحاضنة الثقافية لصباحات شعرية وندوات فكرية، ووقع عدد من الشعراء والقصاصين والروائيين أعمالهم هناك وسط ضجيج المقالي والقدور وأباريق الشاي، وصخب الفضوليين الذين تجمعوا بأعداد غفيرة. لكنها لم تكن سوى محاولة يائسة للاندماج في النسيج الاجتماعي المشغول بتحصيل القوت وتعاطي القات أكثر من أي شيء آخر».

الشاعر يحيى الناعبي المقيم في أستراليا، يسهم بنص «القهوة بوصفها حياة» والذي يهديه إلى «الأسلاف العظماء.. فوق البس واحد» والبس مفردة عمانية (وهي عربية أيضًا) تؤكد الاكتفاء من القهوة، إلا أن صاحب الدلة يصر على زيادة فنجان آخر لضيفه.. بصحة القهوة.