جابر "حكاية تُبعث من مرقدها"

26 مارس 2023
26 مارس 2023

للحكايات سلالة أيضا مستمرّة وممتدة كامتداد الأجناس البشرية، منذ نشأة الخلق الأولى، إلى الحد الذي يماثلها في نقطتي الالتقاء من بداية ونهاية، حيث العودة إلى المادة الخام الأولى، لكن وبتساؤل جليّ يأخذ موقعه، ويتربّع عرض موضوعه، ما هي المادة الخام للحكايات يا ترى؟

هل الأحداث هي المادة الأولية لصياغة الحكايات؟ وإن كانت كذلك فكيف بتلك الأحداث المهملة، التي لا تلقي لها بالا يا ترى؟ لماذا لم تتحوّل إلى حكاية! وإن كانت الحياة هي المادة الخام للحكايات، فسنمتلئ بالحكايات إلى الحد الذي لن نميّز فيه الحكايات من غيرها، وإن كانت التحوّلات المميزة هي المادة الخام، فإن ما تراه مميّزا قد لا يكون كذلك عند الآخرين، إلا أن ما يجعل الحكاية تنفصل عن كل العناصر السابقة التي تشكّل في مجملها الحكاية، فإن الحكاية ستكون كذلك حين تكون أحداثا تُروى، فإن ذلك هو المادة الخام للحكايات.

لنعود بذلك إلى رواية السيرة الذاتية، باعتبارها من سلالة تلك الحكايات الأصيلة، حيث إنها متجذّرة في مادتها الخام الأولية، إلا أنها رغم ذلك تظل ليست ككل الحكايات، فروايات السيرة الذاتية المتخيّلة أشبه بحكايات تُبعث من مرقدها من جديد.

فماذا يعني أن تكون لأحدهم سيرة ذاتية تُروى بعد مرور عقود من الزمان على وفاته؟ وكيف لسيرة أن تستمر أصداؤها بامتداد كبير لتعود بارتداد رجعي عبر رواية سيرة ذاتية متخيّلة؟ "وكأنّ الزمن ترجّل عن صهوة جواده"، وكيف لتلك الكتب القديمة البائدة أن تستفيق مجددا، وأن تلد من أرحام المخطوطات كتبا عصرية جديدة تختصر ما كان، وكيف لتلك الكتب من السيرة الذاتية أن تستجيب لنداءات خفيّة مطالبة حقّها بالخلود والبعث من جديد، فإن كانت تلك الكتب من سير ومخطوطات وغيرها، باعتبارها أمهات الكتب ومراجع يعتدّ بها قد باتت أسيرة لأرفف المكتبات، فلا يراها من الأجيال الحاليّة سوى باعتبارها علوما لا تتناسب مع قراءات العصر وذائقته المعرفية.

إلا أنها تكمل مسيرتها عبر كتب سيرة ذاتية متخيّلة تختصر الأزمان والأمكنة والعقول الفذّة، في كتاب يقارب لغة العصر فتقرّب ما بين الأزمان، ومن لم تعاصره حينها من العلماء ومن لم نبحر في مؤلّفاته، إلا أنه يكمل معها مسيرة عبر السيرة الذاتية فنتعلّم منها، فالسيرة الذاتية ليست محض أحداث من الماضي، حقيقية كانت أم متخيّلة تُروى، بل هي روح تبعث من جديد، وتستنطق حكايات الماضي في سرد عصري موجّه للأجيال الحالية.

والجانب التخيّلي في روايات السيرة الذاتية ليست محض خيال تصوري أسطوري بخيال جامح يتّسم بالفنتازيا، ويركن نحو اللامنطقية والتلفيق، بل إنه إكمال لتلك الحكايات الماضية، والتي نكملها نحن في أذهاننا على نحو فطري، لتأتي روايات السيرة الذاتية المتخيّلة لتعيننا على ذلك، فتكتمل الحكاية وتستفيق الرسالة من جديد، فرواية السيرة الذاتية ليست محض افتراض مجرد من الحقيقة، بل هي إكمال منطقي بسرد أقرب ما يكون للواقع.

ومن أشهر روايات السيرة الذاتية المتخيلة، رواية موت صغير للكاتب "محمد حسن علوان"، سيرة ذاتية متخيّلة للعالم الصوفي ابن عربي ورحلة حياته من الميلاد حتى وفاته، تعبّر عن فكره الصوفي وسفره الدائم في قالب حكائي متخيّل.

لتأتي رواية "جابر" تحكي قصة الإمام جابر بن زيد اليحمدي الأزدي العماني، أبي الشعثاء، الفقيه وإمام التفسير، الذي كان من رواة الأحاديث عن كبار الصحابة، وله نقلات فكريّة كبيرة في ترسيخ معالم وأصول المذهب الإباضي، فقد "أخرجهم من وهم الاختلاف، إلى فيض الاتفاق".

يتتبّع سيرته الكاتب الدكتور "سعيد السيابي" منذ ولادته في عهد خلافة عمر بن الخطّاب، في بلدة فرق في ولاية نزوى، يوم أن جاءت البشرى "نزوى اليوم في عرس يا زيد"، إلى انتقاله في رحلة طلب العلم إلى البصرة، فالطموح في طلب العلم، والحرص على صيد المعرفة، خاصية معروفة عند جابر بن زيد، وذلك ما ذكره الكاتب خميس العدوي في كتاب "الإمام جابر بن زيد، رؤى مستقبلية"، إلى يوم وفاته عام ٩٣هـ، "يوم أن خرجت الناس مجتمعة لتحمله إلى مثواه الأخير"، وإلى أن أصبح "بيت الإمام يتوارى خلف الموكب المهيب"، ليبكيه أنس بن مالك: "اليوم دُفن علم أهل البصرة"، مستعرضا الكاتب رحلته في طلب العلم، وطريقته وإصراره وكيف عبر عن ذلك كون الكتابة شقاء منتظما "جابر ضوء نور في نفق المعرفة، يتبع الليلة بالنهار ليلمّ أطرافا من العلم بين يديه، حركته لا تهدأ، بين بقعة تتناثر فيها أوراق كتابه، وبين الرفوف التي يضع عليها ما انتهى منه".

في قالب روائي تمتزج فيه الحقيقة بالخيال، لتكتمل الصورة في ذهن القارئ، حيث لا شيء يبقى في تلافيف الذاكرة، ويخلد أكثر من الحكايات بقالبها المشوّق، الذي يمتزج فيها الفن بالرسالة التي تعبّر بين جنباته وصفحاته، حيث إن "ثيمة الفن هي ثيمة الحياة ذاتها"، كما عبّرت عن ذلك لورانس داريل.

وتبقى الحيرة كحال كل التساؤلات التي تطرق باب العقل، لتأخذ القارئ حول ما هو متخيّل وما هو حقيقي من الأحداث، وهذا هو دأب العلم على الدوام، لا شيء يقيني وغير محاط بأسياج الأسئلة، لكن على الرغم من جدران الحيرة، ستكون في الأخير القصّة في ذهنك قد اكتملت على نحو لا يُنسى، وكما تقول الشاعرة البولنديّة فيسوانا شيمبروسكا: "أعتذر للأسئلة الكبيرة عن الأجوبة الصغيرة".

جاءت هذه الرواية بقالب السيرة الذاتية التي هي تيّار أدبي، "تختال فيها الدهشة بثقل"، وللمشاعر فيها وقع كبير كتلك "السعادة لها تأثير قوي، فعل السحر يخدّر الجسم بنشوة غير مسبوقة"، تسير فيها الأحداث باتجاه واقعي، وفي سياق أدبي وبتداعي حرة وتماسك بنائي، "وكأنّه جُبِل على الانصياع إلى قائد، أو ملاك خفيّ يمسك بيده ويرشده"، بينما تتداخل الحقيقة بتضمينها بناء افتراضي، من أحداث تكتمل بها القصة، لتنتقل بؤرة السرد إلى مكان آخر، "الهجرة قدر، والمهاجر يحمل روحه على راحتيه "، إلا أنه أدرك ومنذ سن صغيرة أنه "إن تُشعل قنديلا خير من الجلوس في الظلام"، ليستعرض بعدها الكاتب جملة من الخبرات الشعورية، تسلط الضوء في تمركز ذاتي على تجارب لا يمكن تجاوزها، "ما جدوى الوقوف أمام اندفاع النهر"، وفي جانب آخر "إن الشجاعة ليست فقط أن تقبض لسانك وقت الغضب، بل أن تقبض على قلبك وقت الحنين والاشتياق"، "وحيلة القوي المكابرة وحيلة الضعيف الخضوع والاستسلام لقدره"، ليذكر بعدها أهم عقبات العلم، حيث يكون العلم والتيارات الفكرية في بدايتها مادة جدليّة خوفا من هيمنتها الثقافية، تتحتم الرفض والمعارضة، التي قد تصل إلى أقصى حالاتها من حروب ونفي، إلا أنه كان "يشعر بأنه يحمل هذه الأمة على ظهره".