برد الأكل بينما هم يتجادلون!

24 يوليو 2021
24 يوليو 2021

سليمان المعمري

قبيل العيد؛ حركتْ قصيدة قديمة للشاعر سيف الرحبي المياه الراكدة في عُمان حول تلقّي الأدب بوجه عام، والشعر على وجه الخصوص. ولستُ في هذا المقال في وارد الدفاع عن القصيدة أو ذمّها، وإنما تأمل حالة الجدل التي خلقتْها، وهي حالة أزعم أنها صحية، خاصة أن أحد أطرافها طلاب شهادة الدبلوم العام الذين هم في أمسّ الحاجة اليوم إلى تفتّح وعيهم ومداركهم على الشعر الجديد، الذي ظُلِم في مناهِجِنا مرتين؛ الأولى بتأخر تدريسه وبشكل خجول ذرًّا للرماد في العيون، والثانية بإيكال مهمة التدريس هذه لنوعية من المدرّسين يمكن تسميتهم بــ«متعصّبي الوزن»، فهم أنفسُهم لم يَدرُسُوا هذا النوع من الشعر (وأعني به قصيدة النثر)، فلم يتقبّلوه أو يستسيغوه، وانعكس هذا على تدريسهم له، (ولكي لا أقع في التعميم البغيض سأقول إن هناك استثناءات لهذه القاعدة، لكنها تؤكدها أكثر مما تنفيها). ولنتذكّر في هذه العُجالة أن الطلاب احتجوا على ما تلا قصيدة الرحبي من أسئلة بدت لكثير منهم تعجيزية. أكرر هنا أن الاحتجاج كان على الأسئلة الصعبة لا على القصيدة نفسها، وإن انبرى البعض ممن لا ناقة له في الأدب ولا سخل - وكما يحدث دائما- لتصفية حساباته مع الشعر، وقصيدة النثر، بل وسيف الرحبي نفسه.

تُعيدنا هذه الضجة إلى التعريف المنقوص للشعر في مناهجنا الدراسية الذي تتقدمه دائمًا العبارة الكليشيهية: «كلام موزون مقفى»، وهو التعريف الذي يجعل الوزن والقافية شرطين أساسيين للاعتراف بالشعر، وما خرج عنهما فليس بشعر، وعليه فإن قصيدة سيف الرحبي، وقصائد إخوته من شعراء قصيدة النثر، لا يتسع لها هذا المقاس الضيق.

بيد أننا نعلم اليوم وقد تطور مفهوم الشعر تطورًا هائلا أن نقادًا كثرًا عربًا وغربيين اتفقوا على أنه من الكسل المعرفي الركون فقط إلى الوزن والقافية في تعريف الشعر، فقد يتفوّه المرء حتى في كلامه العادي بكلام موزون ومقفى ولكنه ليس بشعر، وربما لهذا السبب يُشبّه أبو حازم القرطاجني من يظن أن كل كلام مقفى وموزون شِعرًا بالأعمى الذي يمنّي نفسه بالتقاط الدُرّ في موضع تشبه حصباؤه الدرّ في المقدار والهيئة والملمس ولكنها في النهاية ليست بِدرّ وإنما مجرد حصباء، في حين رأى عبدالقاهر الجرجاني في «دلائل الإعجاز» أن «الوزن ليس من الفصاحة والبلاغة في شيء، إذ لو كان له مدخل فيهما لكان يجب في كل قصيدتين اتفقتا في الوزن أن تتفقا في الفصاحة والبلاغة»، هذا فيما يخص نقاد الشعر العربي، أما نقاد الشعر الغربي فيختصرهم لنا هنري ميلر بمقولته البليغة: «لا أدعوهم شعراء أولئك الذين ينظمون الأبيات مقفاة أو غير مقفاة، إنني أدعوه شاعرًا ذلك الذي يمتلك القدرة على تغيير العالم».

الشعر إذن أعمق من الوزن والقافية، إنه طريقة في النظر إلى الحياة، التقاط اللحظات الجوهرية فيها وتأبيدها بكلمات ليس كالكلمات، إعادة الأشياء إلى طبيعتها البكر، اللعب باللغة واكتشاف ممكناتها، بالمعنى الإيجابي للعب. يستوي في ذلك قصيدة عمودية لمحمد مهدي الجواهري، أو قصيدة نثر لوديع سعادة. لا أنكر هنا بالطبع، أن أحد أسباب رفض المتلقي العربي لقصيدة النثر هم شعراء قصيدة النثر أنفسهم، الذين لخص سركون بولص في أحد حواراته ما يوجّه إليهم من انتقادات بالقول: إن قصيدة النثر تبدو لهؤلاء الشعراء المستسهِلين، «كأنها بضع جمل عن مقهى وامرأة يحلم بها الشاعر وسيجارة و... إلى آخره من هذه الكلشيهات السخيفة»، مضيفًا أنه «يمكن لأي أحد أن يكتب قصيدة في هذه الحال، ولكن ما قيمة هذه القصيدة؟». غير أن هذا النقد الذي خرج من واحد من أهم من كتبوا قصيدة النثر العربية، خرج نقد مثله على القصيدة الكلاسيكية الرديئة التي لا يهتم «ناظموها» بالشعر فيها قدر اهتمامهم بضبط الوزن والقوافي، فتخرج قصائدهم المزعومة باهتة وخالية من الروح.

وإذن، فإنني أختم بالقول: إن هذه الضجة المفتعلة حول الأشكال الشعرية- في عالمنا العربي بشكل عام وليس فقط في عُمان- يمكن اختصارها في حكاية ذات مغزى، وهي أن شخصًا كريمًا قدم لضيوفه ما لذ وطاب من الطعام، وقال لهم: «كلوا هنيئا مريئا»، لكنهم بدلا من الأكل انشغلوا في انتقاد الأوعية التي حَوَتْ الطعام؛ قال أحدهم: «لو قدمه لنا في صحن لكان أفضل من هذه الصينية»، فيما رد آخر: «بل الصينية أفضل لأنها تتسع لكمية أكبر من الطعام». قال ثالث: «تمنيت لو أنه قدمه في طنجرة». ومضى الوقت، وبرد الأكل بينما هم يتجادلون!.