المتشائمون وأوهام إسرائيل

27 فبراير 2024
27 فبراير 2024

لا أحبُّ المتشائمين في الحياة، غير أن بعضًا مما يتطيرون به يقارب الصواب ويدفعني إلى التسليم بحقيقة وقوع ما يذهبون إليه من تحليلات وأقوال قد تبدو من الوهلة الأولى أنها ضرب من الخيال، لكنها كما يقولون إنها سيناريو مرسوم بحرفية بالغة لتحقيق هدف وغاية خُطط لها من الأساس. ما الذي يدفعني إلى هذه المقدمة؟ وما التشاؤم الذي أعنيه هنا وبت أراه وكأنه حقيقة تترابط خيوطها يومًا بعد يوم لتكون المشهد الكامل للصورة المتشائمة.

في ندوة صحفية عن «فلسطين إلى أين» نظمت لتعريف الصحفيين الجدد عن الحقائق التاريخية للصراع العربي الإسرائيلي والتركيز على الأحداث الراهنة في أعقاب السابع من أكتوبر، قال الضيف ذو الخلفية السياسية الواسعة والمتابع للشأن الفلسطيني: إنّ «ما يحدث في غزة هو مخطط مرسوم وبدقة هدفه تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على ما تبقى من أراضٍ فلسطينية لأسباب تعود إلى الحاجة للأرض للتوسع والاستيطان، ولأن أرض غزة حبلى بالكثير من موارد النفط والغاز». طرح قد يسمع ولأول مرة على الأقل في شقه الثاني؛ لأن الشق الأول قد تم تداوله منذ البداية، ولأنه أيضًا بات من الحقائق التاريخية التي شهدتها أرض فلسطين على مر التاريخ وهو اغتصاب الأرض لأجل الأرض والاستيطان والتهجير، أما الشق الثاني وهو ما أكدته بعض القراءات من كتّاب ومحليين سياسيين مخضرمين من أنه قد يكون السبب الرئيس وراء حملة التهجير الشرسة التي تشنها إسرائيل ضد الإنسان والأرض في غزة وليس ما أعلن عنه من هدف للقضاء على المقاومة الفلسطينية وضمان أمن إسرائيل. لم يرق لأذني هذا الرسم المحبك لسيناريو إسرائيل الكبرى واعتبرته من فضل قول «نظرية المؤامرة» التي يؤمن بها إخواني من العرب عندما يُحاصرون في زاوية ضيقة حين لا نمتلك مسوغات قولية أو فعلية للرد على ما يجري من أحداث سوى اللجوء إلى الاستصغار وإلقاء الملامة على الآخر القوي المتآمر ضدنا، فاليوم في عصر السماوات والأراضين المفتوحة، ولا يمكن تمرير مثل هذه السيناريوهات علينا نحن أجيال الذكاء الاصطناعي، وإن كانت هذه الحيلة قد انطلت على أجدادنا من قبل ولم يلتفتوا إليها فلربما كان الخلل في ضعفهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس، أما اليوم فلا يمكن لمتشائم أن يمرّر مثل هذه المقولة ويراهن عليها من دون أن تنتبه الأجيال المتعلمة الواعية إلى المخططات الإسرائيلية -غير المكتملة- لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.

الحديث خلال تلك الندوة شرّق وغرّب وذهب إلى أبعاد كثيرة لتبرير الوحشية الإسرائيلية في هذا التوقيت بالذات، فبعض من الأسباب ذهبت إلى الداخل الإسرائيلي الذي يحاول تلميع صورته وضمان بقائه في السلطة وعدم سقوط ورقة التوت التي يتغطى بها، والبعض أرجع تلك الوحشية إلى العنجهية الإسرائيلية المتمثلة في ماضي إسرائيل الدموي في حين أرجع المتشائمون كل ذلك إلى نية إسرائيل طرد فلسطينيي غزة إلى دول مجاورة، والاستيلاء على الموارد المتاحة في القطاع واستكمال باقي الحلم الإسرائيلي في توسيع الرقعة الصهيونية على التراب العربي وإبادة كل ما يمتّ لفلسطين والعرب من إرث وتاريخ عميق.

كما قلت في البداية فأنا لا أحب المتشائمين ممن يعكّرون صفو الحياة على الناس والمجتمع، لكن هذا التشاؤم يبدو لي بأنه أقرب إلى الحقيقة السوداء المُرّة التي وإن نفيناها أو حاولنا الهروب منها، إلا أنها مرارتها تبقى عالقة في الحلق عصية على البلع غير قابلة للتصديق، وتبدو من نسج الخيال وضرب من الأوهام والأحلام الإسرائيلية، وما دليل تصريحات إسرائيل وحلفائها والتي بدأت في الترويج لهذا السيناريو إلا تكريس للتشاؤمية التي ينبغي ألّا ننفيها بقدر ما نواجهها رغمًا عن قساوتها ومرارتها كي لا تتكرر أحداث من سبقونا في التاريخ.