اللغة بوابة لمتعة السرد

09 أغسطس 2022
09 أغسطس 2022

" الحزن أكثر طرق التعليم قسوة. تتعلم أن الحداد قاس، وينضح بالغضب. تتعلم الاستماع إلى التعازي بسلاسة. تتعلم كيف أن الحزن متعلق باللغة" – من يوميات " تدوينات الحزن" للكاتبة النيجيرية تشيماماندا نغوزي أديتشي-

اللغة عنصر أساس في استمرار وبقاء وإعادة قراءة أي عمل أدبي، إنها بمثابة الإهاب أو اللباس الظاهر، ولكنها ليست لباسا مجردا بل موصولا بالمعنى. فلا يمكن في السرد المكتوب أن نبني أي معنى خارج اللغة. في حين يمكن إيصال المعاني إلى الأذهان في اللوحة الفنية بواسطة مزيج من الألوان والأشكال، وفي اللقطة السينمائية بواسطة التأثيرات الحركية والموسيقية، فإن اللغة في السرد هي البوابة الأساس لإيصال مختلف المعاني. كما أنها - أي اللغة- هي ما يميز الكثير من الأعمال الأدبية، فمثلا حين يقول قائل إن الرواية الفلانية جميلة وممتعة إلى الدرجة التي تشعر فيها وأنت تقرأها وكأنك تشاهد فيلما سينمائيا؛ وذلك لأن بعض الروايات تعتمد حبكة تصعيدية بوليسية، وهذه صياغة لا تخل بالعمل السردي، شريطة أن تكون مبنية بناء وصفيا عبر لغة متوشحة بوشاح البلاغة القشيب. ولا تكون -فقط - رواية مقطعية مبتذلة ( كليشيهاتية) أو احتدامية (ميلودرامية)، وبذلك تحمل تميزها حتى عن ما أسند إليها اعتباطا، وهو المجال السينمائي الدرامي. وذلك ﻷن الوصف في الرواية هو العنصر الذي تصعب معالجته دراميا، بل إن الدراما غالبا ما تتجنبه أو تستعيض عنه بالتأثيرات، لأنه ليس من طبيعة الصورة، إنما من طبيعة اللغة. بل أحيانا تستعيض عنه حتى بالصمت، أو تتجنبه نهائيا ﻷنه مصدر التحدي اﻷول في الرواية، ناهيك عن اللغة الروائية التي لا تعتمد اللغة التوصيلية المباشرة التي تعتمدها الدراما، إنما اللغة الممتحة من حقل البلاغة و التشبيهات.

والأمر لا يقتصر هنا فقط على الرواية والقصة، إنما يتعداه حتى إلى اليوميات وكتابات السير الذاتية. أخيرا قرأت كتاب مذكرات بعنوان " تدوينات الحزن" للكاتبة النيجرية تشيماماندا نغوزي أديتشي، التي تعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحظى رواياتها بإقبال شرائي ملحوظ، كما تحظى أعمالها بترجمات إلى مختلف اللغات الحية، وكتاب المذكرات هذا يلخص محنة واجهتها الكاتبة أثناء وباء كورونا. حيث توفي والدها جيمس نوبي أديتشي، أستاذ الاقتصاد المعروف في بلده وخارجها، وكانت الكاتبة في أمريكا بعيدا عنه. المذكرات تقع في 95 صفحة، الغريب أنها صدرت عن سلسلة " روايات" المتفرعة عن منشورات كلمات بالشارقة. وكأنما معنى ذلك أنه يمكننا قراءتها كرواية، بالمعنى اللغوي والسردي على الأقل، وذلك لما يكتنف هذه المذكرات من فصول تشويقية تصاعدية ومن لغة أدبية عالية، أتقن المترجم فهد الطاسان في تقريب ظلالها الأصلية إلى القارئ، الذي سيشعر وهو يقرأ بأنه بإزاء سبيكة أدبية متقنة، ونص ممتع، حيث إن الكاتبة لم تقدم لنا ذلك الحزن الذي أوحى به العنوان بطريقة النواح والتفجع، إنما بطريقة سابرة للنفس البشرية وبذلك الشعور الإنساني الذي يبثه بصدق إنسان بعيد وغريب عن وطنه، يتعرف فقط عن طريق " الزوم" على تفاصيل موت عزيز له، وهذا العزيز لم يكن غير الأب، وكم هي عميقة العلاقة والتفاصيل والمشاعر التي تجمع بين الأب وابنته الصغرى. سنكتشف من خلال هذه المذكرات كذلك، أنه كلما طال العمر بالمرء تزداد قيمته لدى أقربائه، وبالتالي تزداد تفاصيل حياته معهم، وبذلك يكون ألم فراقه مضاعفا. ناهيك عن أن هذا الفراق يتدخل فيه العزل الطبي بسبب جائحة كورونا. حيث تنتقل الكاتبة من الشعور الخاص الذي انتابها لحظة وصول خبر وفاة والدها عن طريق تقنية الزوم، حيث اجتمعت العائلة أمامها عبر الشاشة لأنها في مكان بعيد عنهم، لينقلوا لها الخبر الذي شكل صدمة كبيرة للكاتبة. وفي الفصول اللاحقة تعرفنا الكاتبة على طبيعة ارتباطها بوالدها، لنكتشف أنها علاقة أكبر من علاقة أب بابنته، بل هي علاقة تصل إلى حدود الصداقة المتينة، حيث شكل الأب كذلك قدوة لابنته، بسبب مثابرته العلمية وتميزه على مستوى علم الاقتصاد ليس فقط في نيجيريا إنما حتى في أمريكا التي أقام فيها هو وعائلته أستاذا لمادة الاقتصاد في إحدى جامعاتها. ثم اختار أن يعود حين تقدم به العمر إلى قريته في نيجيريا. لتظل ابنته هناك تواصل دراستها ثم تتميز ككاتبة نالت شهرة واسعة بعد أن حصلت على مجموعة من الجوائز الأمريكية وبرزت صورتها في واجهات صحف أمريكية مرموقة، كما صنفت بعض رواياتها كروايات العام من قبل صحف أمريكية واسعة الانتشار كنيويورك تايمز وواشنطن بوست وشيكاغو تريبون وغيرها. هذه الشهرة جعلت بعض الخاطفين في نيجيريا يختطفون والدها ولم يساعده – حسب ما ذكرت الكاتبة – سوى جنسيته الأمريكية حين تدخل السفير الأمريكي في نيجيريا وتمت التسوية مع الخاطفين بوضع المال الذي طلبه الخاطفون تحت شجرة في إحدى الغابات، وكان سبب خطفه اطمئنان الخاطفين بأنهم سيحصلون على مال وافر، وذلك بسبب شهرة ابنته، وكذلك جنسيته الأمريكية التي حصل عليها بسبب إقامته الطويلة هناك.